تطل علينا كرمة ابن هانئ ”قصر أمير الشعراء” بذاكرة من تاريخ مصر فتسرد لنا قصصا وأحداثا تجعلنا نبحر في عالم راق قلما نجده.ففي ضاحية من ضواحي الجيزة في شارع ”مبرح بن شهاب” -أحمد شوقي حاليا- بالقرب من نهر النيل والأهرامات تنظر إلينا الكرمة فهي مهبط الوحي الشعري علي شوقي وكانت في البداية في ضاحية المطرية علي مقربة من قصر القبة الذي كان يقضي فيه الخديوي ”عباس حلمي الثاني” معظم أوقاته ثم نقلت إلي الجيزة بعد المنفي سنة .1920
وسميت بالكرمة لأن شوقي كان مولعا بـ”أبي نواس ابن هانئ” أمير الشاربين والكرمة وما تعتصر منها فعن شوقي قال ”أحمد رامي” إنه كان خبيرا بالنبيذ يتخير أجودها ويدعو أصدقاءه إلي مائدته بعد جولته في الصباح ويرشف رشفة من الكأس ثم يهيم ماشيا يسجل أبياتا شعرية ومع تكرار ذلك تنتهي القصيدة.وكان للكرمة عدد من الخدم يعينون علي تنظيم ترتيب الكرمة ولكي لا يشعروا بمرارة الخدمة كان شوقي يمنحهم المال والوقت ليستمتعوا بحياتهم فهو خجول من إحراج أي أحد إلا إذا كان الأمر يمس الدين فهو حريص علي أن تكون للدين قدسيته وغير ذلك كان متحررا مع الجميع حتي إنه سمح لولده ”علي” أن يدخن في حضرته,الأمر الذي استنكره كثير من الناس باعتباره خروجا عن التقاليد.
وعاش شوقي حياته طولا وعرضا ولم ينس يوما أنه اضطر لرهن ساعته للحصول علي كأس شراب ومن أحب أوقاته هي بعد الغذاء حيث يتفرغ للقراءة والتفكير في القضايا المطروحة,أما وقته فموزع ما بين زيارته لأصدقائه والقراءة حتي الرابعة صباحا والنوم.هذا بالإضافة إلي ولعه الشديد بالتحف والآثار والحيوانات فشهدت الكرمة حديقة مليئة بشتي الحيوانات (الغزلان,السلاحف,قردة,ببغاوات,مئات من العصافير الملونة).وتمساح صغير وضعه في حوض بني له خصيصا وقطة أنقرية سماها ”زنبل” أي برد بالتركي لأنها كانت ناصعة البياض ولها تقاليد أرستقراطية فلم تكن تأكل إلا لحم الدجاج ولا تنام إلا في حجرة زوجة شوقي ”خديجة هانم شاهين”.
وماتت تلك القطة بعد أن سافرت العائلة في رحلة لأنها لم تجد من يطعمها,وطبعت في جدران الكرمة ذكريات لأحداث وشخصيات مهمة.فتذكر أم كلثوم أن شوقي طلب منها أن تغني عنده في الكرمة وبالفعل ذهبت هي ووالدها وغنت في حضرة أعالي القوم ماعدا شوقي فكان يترك الحفل ثم يرجع قليلا وأثار ذلك قلق ”أم كلثوم” إلا أن والدها طمأنها بأنه إلهام من الشاعر وانتهت الحفل وسعد الجميع وفي صباح اليوم التالي طرق منزل ”أم كلثوم” شوقي وبيده ظرفا مغلقا اعتذرت أم كلثوم عن قبوله معللة بأنها لا تأخذ مالا عن تلك الحفلات ولكنه قال لها ”هذا بعض من إلهامك”.ففتحت الظرف فإذ به قصيدة ”سلوا كوؤس الطلي هل لامست فاها” وشدت بها أم كلثوم بعد موت شوقي في سنة 1946 وهي من ألحان رياض السنباطي ولاقت نجاحا جماهيريا ساعد علي غناء قصائد شوقي متتالية.
ولم تغب الكرمة عن الزعماء والمفكرين فحضر ”سعد زغلول” أحد أصدقاء شوقي الذي وصفه ”أنه زعيم له كل مواصفات الزعامة” حفل زفاف ”علي شوقي” وبسببه تأخر البرلمان ساعة كاملة.وهو شئ لا نظير له في تاريخ البرلمان وبعيد عن الكرمة -عند الأتوبيس- ركب شوقي مع ابنه حسين وصعد رجل عملاق إلي الأتوبيس به ملامح الترف والثراء يعلق سلسلة ذهبية بصدره وفي فمه سيجار ضخم ثم مالبث أن استسلم للنوم وراح يغط غطيطا يرهق الأعصاب وصعد نشال في مقتبل العمر جميل الصورة وهم يخطف السلسلة ولكنه ما أدرك شوقي فأشار إليه برأسه يستأذن منه.هل يأخذها؟فأجابه شوقي برأسه (خذها) فنشلها الشاب ونزل بعدما حيا شوقي برفع قبعته له.وحين سأله ابنه حسين عن ذلك أجابه بشئ عجيب:
لو كنت مقسما للحظوظ فلمن تعطي السلسلة الذهبية؟
رد عليه حسين:للشاب الجميل.,فأجابه وها هو أخذها.
ومن مزاحاته أيضا أنه اتفق مع ضابط أن يدخل في حزم وكأنه من القلم السياسي ويطلب القبض علي الدكتور ”محجوب ثابت” وذلك بعد أن يستغرق محجوب في سب الإنجليز كعادته.وبالفعل دخل الضابط رافعا يده بالتحية العسكرية معتذرا أنه جاء في مهمة ثقيلة وهي القبض علي الدكتور محجوب فلم يكد يسمع كلمة القبض حتي ذاغ بصره ورفعت لحيته وصفر لونه وتراخت أوصاله ونظر إلي الجميع ثم تظاهر بالشجاعة.أما الحاضرون فلم يستطيعوا حبس ضحكهم وقهقهاتهم من تلك الكوميديا وانفجروا ضاحكين.
وهكذا كان للكرمة أحداث وذكريات حتي يوم 13أكتوبر1932 وهو اليوم الذي رحل فيه الأمير ويذكر سكرتيره ”أحمد عبد الوهاب” أنه صاحبه في هذا اليوم في سيارته وتحدث معه في موضوعات دينيه أن الله يقبل التوبة والغفران ثم عاد وتوفي حوالي الثانية صباحا ودفن في قبره وكتب عليه برغبته في الوصيه بيتين من قصيدة ”نهج البرودة”
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي
كيف لا يتسامي بالرسول سمي
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل
في الله يجعلني في خير معتصم
ومات شوقي وأظلمت الكرمة بموته ولكنه عاش حيا في كرمته فهو القائل
الناس صنفان موتا في حياتهم
وناس ببطن الأرض أحياء
إعداد الشريف منجود
المراجع:
-أبي شوقي حسين شوقي
-ملوك وصعاليك صالح جودت
-أم كلثوم سعد الدين وهبة
-أحمد شوقي ماهر حسن فهمي