في اليوم الخامس والعشرين من هاتور القبطي (4 من ديسمبر) تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية في مصر وفي الأقاليم التابعة للكرازة المرقسية, باستشهاد القديس المحارب والمناضل والبطل (فليوباتير مرقوريوس) المعروف شعبيا بالشهيد (أبي سيفين), وأما كنائس الروم فتعيد لذكراه في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر).
ولهذا القديس في كنيستنا عيدان آخران: أحدهما في 9 من بؤونة (16 من يونية) عيد وصول أعضاء من جسده إلي مصر, في عهد الأنبا يوحنس البابا الرابع والتسعين, بمساعدة (مكروني) مطران دير الأرمن بالقدس, ووضع هذا العضو الطاهر في كنيسة القديس أبي سيفين الأثرية بمصر القديمة التي صارت مركزا للكرسي البطريركي فترة من الزمن, ولقد رسم فيها (14) أربعة عشر بطريركا, والعيد الثاني عيد تكريس الكنيسة التي دشنت باسمه, ويقع في 25 من أبيب (أول يوليو).
والمعروف عن القديس أبي سيفين أنه من مدينة اسكنطس من أعمال مقدونية, في شمال بلاد اليونان, سماه أبواه (فيلوباتير) PHILOPATER (أي المحب لأبيه), وكان والده صيادا للوحوش وكان وثنيا يعبد الأصنام, ولقد تعرض لخطر محقق, فقد كادت الوحوش تفتك به في الغابة, لولا تدخل معجزي من السماء, فقد ظهر له المسيح له المجد بنور عظيم, وأنقذه من أنياب الوحوش, وعرفه بشخصه المبارك, ودعاه إلي الإيمان به, وإلي نبذ عبادة الأوثان, وأن يسلك في طريق القديسين, فاستجاب للنداء الإلهي, وشكر الله علي نجاته, ورجع إلي بيته فوجد امرأته هي الأخري قد لمس نور المسيح قلبها, بأن ظهر لها في حلم جميل, ودعاها إلي معرفته وإلي الإيمان, ففرح الاثنان جدا بنعمة الله وعنايته بهما, ومضيا إلي أسقف المدينة, ومعها ابنهما الصغير (فيلوباتير) وطلبا منه أن يصيرهم مسيحيين, فعمدهم, وفي المعمودية أعطي لكل منهم اسما جديدا. أما الأب, فصار اسمه (نوح), وأما الأم فصارت تعرف باسم (سفينة), وأما الابن الصغير فيلوباتير, فأعطاه الأسقف اسم (مرقوريوس) MERCURIUS وهو لكوكب (عطارد), وفي نفس الوقت, هو عند الرومان إله الحذق والبراعة والفصاحة والدهاء, ومانح الرخاء, والمشرف علي الطرق, والهادي لأرواح الموتي إلي مقرها الأبدي.
ولما صار نوح مسيحيا, ترك مهنته القديمة, في صيد الوحوش, غير أن ملك البلاد, وقد عرف فيه شجاعته وبسالته, عينه من بين قادة جيشه, وعندما هجم البربر علي المملكة, عهد إليه الملك بصد عدوانهم فأظهر بسالة وكفاءة حربية ممتازة, فجعله الملك قائدا ورئيسا ومنحه لقب أمير.
ولما مات نوح, وكان الملك يثق فيه, أقام ابنه (مرقوريوس) قائدا ورئيسا علي الجند في المكان الذي خلا بوفاة والده, ولم يكن مرقوريوس قد تعدي العشرينيات من عمره, إلا أنه قد ورث من أبيه شجاعته وجرأته ومقدرته الحربية والعسكرية, ولم يكن الإمبراطور ديكيوس DECIUS (201- 251م) يعرف عن مرقوريوس أنه مسيحي…
وثار البربر علي مملكة الروم, فانبري لهم مرقوريوس, وأظهر شجاعة نادرة, وبينما كان مرقوريوس في ساحة الحرب, ظهر له في خيمته رئيس الملائكة ميخائيل في هيئة إنسان محارب, طويل القامة, يرتدي ثوبا أبيض ناصع البياض جدا, وبيده سيف عجيب, ثم قال له: (مرقوريوس, لا تخف, ولا يضعف قلبك, فقد أتيت إليك لأنقذك, ولأبشرك بأنك ستنتصر, وخذ هذا السيف الذي بيدي واحمله معك إلي البربر, وسيحقق لك نصرا عظيما. فإذا تم لك النصر, لاتنس الرب إلهك). قال الملاك هذذا ثم اختفي فجأة, فتعجب مرقوريوس من منظره ومن اختفائه, لكنه تحسس السيف, فإذا به حقيقة في يده, وإذن لم يكن هذا الزائر إنسانا عاديا, ولم يكن مرقوريوس في حلم… فأيقن أن الزائر كائن روحاني أو هو ملاك في صورة إنسان, فتشجع وحمل علي البربر, ففروا من أمامه, وسقط قائد جيش البربر بالسيف العجيب, ولقد وقف جميع جنود الروم مشدوهين منذهلين وهم يرون قائدهم يهزم البربر بمفرده, وقد كان السيف في يده مثيرا للدهشة: لقد التصق السيف بيد مرقوريوس بالدم, وكأنه جزء من ذراعه, فقتل به أعدادا غفيرة من جند الأعداء, وأما القلة الباقية منهم فولوا الأدبار مذعورين.
وهذا هو السبب في أن مرقوريوس سمي بـ أبي سيفين نسبة إلي السيف الذي منحه الرب إياه بيد رئيس الملائكة ميخائيل, لينتصر به علي جيش الأعداء من البربر, بالإضافة إلي سيفه الآخر الخاص, كمحارب وقائد للجيش.
وبعد أن تم النصر لمرقوريوس علي البربر, ذهب جند الروم إلي الإمبراطور دكيوس, في مظاهرة فرح صاخبة يهتفون باسم البطل المغوار مرقوريوس, ورووا للإمبراطور ورجال الدولة قصة هذا النصر المبين الذي أحرزه مرقوريوس بذلك السيف, فسر الملك بالنصر, واعتقد أن آلهته هي التي واتته بالنصر علي يد مرقوريوس, فأمر لمرقوريوس بعطايا وهدايا, ثم عينه قائدا عاما علي جميع جيوش الإمبراطورية الرومانية, وأصدر تعليماته بإقامة الاحتفالات والمهرجانات تكريما للآلهة في جميع المدن, وهو في طريق عودته إلي روما, عاصمة ملكه.
وفي نشوة الانتصار أرسل الإمبراطور ديكيوس إلي جميع الحكام وشعوب الإمبراطورية الرومانية منشورا في سنة 250 لميلاد المسيح, جاء فيه:
من ديكيوس إمبراطور روما وسائر أنحاد العالم إلي جميع سكان الإمبراطورية. ليكن معلوما لديكم أن آلهة الآباء والأجداد, هي التي كتبت لنا النصر. فالإله أبولون APOLLON هو رب الجميع, وله ينبغي السجود من جميع الناس, وقد أصدرت أوامري لجميع الجنود والقادة والأمراء وكبار رجال الدولة بالسجود أمام الآلهة, وأن يقدموا لها البخور, وكل من أطاع أوامري نال كرامات وعطايا جزيلة. أما من يعصي هذه الأوامر, فله الويل. ولسوف يعذب بأشد أنواع العذاب, ثم يقتل بالسيف, جزاء خيانته للآلهة, ورفضه إطاعة أوامري, كما أمرت أن تترك جثته لطيور السماء وللحيوانات الكاسرة طعاما, فيكون عبرة لغيره. فيا شعب الإمبراطورية, اسجدوا للإله أبولون, وتعبدوا للإلهة أرطاميس, ابتعدوا عن الخرفات الجديدة التي تدعو إلي عبادة رجل مصلوب, قتله اليهود في أورشليم. هذه هي أوامري, والويل لمن يعصاها. (من الإمبراطور ديكيوس- صدر في روما في السنة التاسعة من حكمه السعيد).
والإله أبولون كان معروفا في الديانة اليونانية, ولازال له معبد في مدينة دلف التي تبعد عن أثينا بحوالي اثني عشر ساعة بالأتوبيس وهي علي جبل عال, ويعد أبولون كبير الآلهة وعلي جدار هذا المعبد وجدسقراط الحكمة التي تقول اعرف نفسك بنفسك واتخذها أساسا لفلسفته.
ويبدو أن الإمبراطور لم يكن يدري حتي هذه الساعة أن القائد الأعلي لجيوش الإمبراطورية الرومانية, مرقوريوس, مسيحي, ترك مع والديه عبادة الأوثان, وصار يؤمن بدين المسيح. لأن المسيحية كانت تمارس تحت الأرض, فكان الفرد لا يعلن عن ديانته لأنه لم يكن هناك اعتراف بالديانة المسيحية, الاعتراف بالمسيحية جاء في عهد قسطنطين, إنما قبل ذلك كان المسيحي يأخذ اسما جديدا في المعمودية, ويظل باسمه القديم المعروف, فصدور منشور ديكيوس باضطهاد المسيحيين, سوف يعرض أشجع جنوده وقواده لعذابات مريرة, وهنا وقع مرقوريوس في مأزق وفي حرج شديد, وعليه أن يختار واحدة من اثنين: إما الإخلاص للمسيح وما يستتبعه الاستمساك بدين المسيح من اضطهاد وحرمان وعذاب وآلام وقطع الرأس بالسيف, وإما الخضوع لأوامر الإمبراطور وما يستتبعه هذا الخضوع من كرامات, ومع احتفاظه بمكانته ومركزه ومنصبه وما يتلوه من ترقيات.
وبينما كان مرقوريوس, في مخدعة يصلي إلي الرب يسوع, والجنود نيام, يضئ المكان مرة أخري بظهور رئيس الملائكة الجليل ميخائيل بنفس المنظر والجلال الذي رآه فيه من قبل عندما سلمه السيف العجيب. فارتعب مرقوريوس من جماله وبهائه, لكن رئيس الملائكة طمأنه بابتسامة نورانية روحانية قال له: هل تذكر يامرقوريوس, ما قلته لك, وأنت في ساحة المعركة, وقبل النصر, ألم أقل لك: لا تنس الله؟! إذن لماذا قبلت تلك الخلع والرتب من الإمبراطور؟ ألم تعلم أن الإمبراطور جدف علي السيد المسيح, وأمر بتعذيب كل من يؤمن بالمسيح؟ أيرضيك هذا يامرقوريوس؟ أيرضيك أن تكون في خدمة ذاك الشيطان الرجيم؟ لا تتوان عن أن تدافع عن الإيمان المسيحي بشجاعة أبطال الإيمان, ولا تتأخر عن أن تقبل بسرور الآلام من أجل اسم المسيح, فأنت إذا صمدت في معركة الإيمان, ستنال أخيرا إكليل البر, وستكون لك الحياة الأبدية في ملكوت السماوات… مرقوريوس, كما حاربت وانتصرت في جيش الملك الأرضي, ستحارب وستنتصر في جيش ملك الملوك ورب الأرباب…
وما كاد الملاك الجليل ينهي خطابه حتي اختفي في لمح البصر. فأيقن مرقوريوس أنها دعوة السماء للجهاد الأعظم في سبيل الإيمان.
وبينما هو غارق في أفكاره, يستجمع قواه, إذا بقائد كبير يطرق بابه, ويؤدي له التحية العسكرية ويفضي إليه بأن الإمبراطور يستدعيه إلي مجلسه للتشاور معه في مهام الدولة. فاعتذر في مبدأ الأمر محتجا بتعبه صحيا, لكن الإمبراطور أرسل إليه مرة أخري, فذهب إليه, وعندئذ أمره أن يسجد معه لأبولون فرفض مرقوريوس, بكل شجاعة, أن يتعبد للأصنام, وأعلن أنه مسيحي يعبد الله الواحد, فذهل الإمبراطور لجرأة مرقوريوس في عدم الإذعان لأوامره, ولاطفه ثم عاد وتوعده بحرمانه من امتيازاته, وبتعذيبه وقتله. أما مرقوريوس فلم ينتظر طويلا, بل بقلب جرئ وزاهد في أباطيل العالم خلع منطقته العسكرية, وحلته بنياشينها تحت أقدام الإمبراطور, وجهر بمسيحيته, ولعن آلهة الإمبراطور الوثنية, وكان عليه أن يدفع الثمن, فدفع ثمنا غاليا, من نقطيع لجسده بأمواس حادة, وحرق جنبه بالنار, وشدة بين أوتاد أربعة, وضربة ضربا مبرحا, كما علقوا في عنقه حجرا ثقيلا, وأخيرا قطعوا رأسه, فنال إكليل الشهادة.
فلما انتهي زمان الاضطهاد, أقاموا علي جسده كنيسة في قيصرية, عاصمة كبادوكيا في تركيا, وعلقوا فيها سيف مرقوريوس, ويروي بعد ذلك أن الإمبراطور يوليانوس الجاحد JULIANUS (331- 363)م دخل في حرب مع الفرس, فلاحظ القديس باسيليوس الكبير البطريرك وهو يصلي في الكنيسة أن سيف مرقوريوس المعلق قد اختفي من الكنيسة فتعجب, ولم يلبث قليلا حتي رأي السيف عاد إلي مكانه, وجاءت الأنباء بعد حين أن يوليانوس قد قتل في الحرب, وقد شوهد مرقوريوس في سماء المعركة, يضرب يوليانوس بسيفه ويوليانوس نفسه صاح وهو يحتضر ينادي المسيح حانقا لقد غلبتني أيها الجليلي ومن بين من أوردوا هذه القصة.
De LACY O##LEARY, THE SAINTS OF EGYPT.