أصبحت الفتاوي المثيرة للجدل ظاهرة جديدة تشغل المجتمعات العربية وتستنزف جهودها وتصرفها عن قضاياها الرئيسية, تثير هذه الفتاوي جدلا كبيرا حولها فينشغل الناس بها ما بين مؤيد ومعارض ومستنكر, وما إن تهدأ الضجة حتي تنطلق فتوي أخري مثيرة للصخب, ما الفتوي؟ وما حاجتنا إليها؟ وما دورها؟ ولماذا أصبحت تثير جدلا ساخنا في أيامنا؟
تعرف الفتوي أو الفتيا بأنها: إخبار بحكم شرعي في أمر من الأمور الطارئة وتأتي غالبا جوابا عن سؤال لقضية مطروحة, وهي نوعان: نوع لا يحتاج إلي اجتهاد لوضوح حكمه من القرآن والسنة, وهو أغلبية الفتاوي اليومية الصادرة عن الجهات الدينية الرسمية وتتعلق بالعبادات من الصلاة والصيام والزكاة والحج والأسرة, ونوع آخر يحتاج إلي اجتهاد, وهو الذي يثير الإشكاليات العديدة لأنه يأتي في أمور خلافية: سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية, ولاشك أن حاجة مجتمعاتنا إلي النوع الأول مستمرة وتقوم بتلبيته جهات الفتوي الرسمية ومثل هذا النوع من الفتاوي مطلوب ومحمود, ولكن النوع الآخر من الفتاوي المثيرة للصخب والصادرة عن مشايخ هم نجوم الفضائيات والمواقع الإلكترونية, يحتاج إلي وقفة ومراجعة وضبط.
لقد كانت الفتاوي علي مر التاريخ الإسلامي مصدر خصوبة وحيوية للفقه وكانت تساهم في إيجاد حلول للقضايا الطارئة في المجتمعات الإسلامية, كانت الفتاوي حلولا لمشكلات وأصبحت اليوم مصدرا للمشكلات وسببا في الإشكاليات التي تتطلب تدخل الجهات المعنية لوضع ضوابط لها والحد من سلبياتها وتداعياتها علي أمن واستقرار المجتمعات العربية وعلي الوحدة الوطنية وعلي موارد وطاقات المجتمع وخطط التنمية والبناء خصوصا أن جانبا منها ##الفتاوي الطائفية## يؤجج الصراع الطائفي ويزرع الكراهية والفرقة بين المسلمين وبين أبناء المجتمع الواحد, كما أن جانبا آخر منها ##فتاوي الجهاد## كان وراء ترويج ثقافة الانتحار والتدمير الذاتي وترخيص قيمة الحياة ودفع آلاف الشباب المسلم إلي ميادين الهلاك والعمل الإرهابي, إضافة إلي ##الفتاوي التحريضية## ضد الكتاب والمثقفين الليبراليين بدعوي أنهم علمانيون ومنافقون ومرتدون.
السؤال المطروح هنا: لماذا تعاظم الدور السلبي للفتاوي الدينية في مجتمعاتنا المعاصرة؟! في تصوري أن هناك جملة من العوامل الطارئة والمساعدة في تفاقم الأزمة ومن أبرزها:
1- اشتداد الطلب المجتمعي علي سوق الفتاوي, وهذا عرض لمرض عام اسمه ##إدمان الفتاوي## أصيب به المجتمع العربي, يتصاعد الطلب علي الفتاوي كنوع من الحل الديني السهل لقضايا سياسية واجتماعية واقتصادية خلافية تهربا من المسئولية الأخروية بالاتكال علي المفتي ##خليها في رقبة عالم واطلع سالم## و##خلي بينك وبين النار شيخ## وركونا للكسل الفكري وعدم إعمال العقل في إيجاد حلول لقضايا سياسية واجتماعية واقتصادية كما تفعل الشعوب الأخري, لقد أصبح المفتي هو المرجع الأول في قضايانا, وأصبحت ثقافة الفتوي هي الزاد اليومي لقطاعات عريضة في مجتمعاتنا, فأصبح البعض لا يتحمل استقلالية التفكير والتصرف في أمور حياته, يستفتي الشيخ في كل صغيرة وكبيرة متجاهلا قول الرسول صلي الله عليه وسلم ##الحلال بين والحرام بين## وقوله ##استفت قلبك##, وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام للصحابة ##أنتم أعلم بأمور دنياكم##, وهو لا يدري شيئا عن القاعدة الذهبية في الإسلام ##الأصل في الأشياء الإباحة##.
2- التنافس الإعلامي المحموم بين الفضائيات للاستحواذ علي أكبر عدد من المشاهدين ضمانا للإعلانات والانتشار بتخصيص برامج للفتاوي الدينية, وتفسير الأحلام, واستضافة مشايخ ودعاة لهم شعبية جماهرية.
3- انتشار المواقع الإلكترونية الدينية المتخصصة في الفتاوي بحيث أصبح كل شيخ له موقع فتوي إلكتروني.
4- اتساع قاعدة المفتين بسبب ما تحققه الفضائيات والمواقع الإلكترونية من شهرة ونجومية ونفوذ.
5- ظهور فئة جديدة من ##الدعاة الجدد## من خارج المؤسسات الدينية, أتقنوا فن التواصل الجماهيري واجتذبوا قطاعات متنوعة من المجتمع إليهم بأكثر من الدعاة الرسميين.
6- اشتداد الصراع الفكري بين المحافظين والمجددين مما جعل دعاة المحافظة يوظفون سلاح الفتاوي ضد خصوهم بكثرة, وهذا ما يفسر لجوء المحرمين للاختلاط إلي استخدام فتاوي التكفير ضد دعاة الاختلاط, وقد وصل الغلو في الخصومة أنهم لا يكتفون بالرد علي مخالفيهم فحسب, بل يتجاوزون ذلك إلي الطعن فيهم عبر تهم النفاق والكفر والمطالبة بمحاكمتهم.
7- الثورة التقنية ودخول الفضائيات والشبكة الإلكترونية في كل بيت بحيث أصبح المفتي جاهزا ##تحت الطلب## وموجودا في كل بيت وفي كل وقت.
8- ##التسييس## و##الأدلجة## آفتان منتشرتان بفعل تيار الصحوة الإسلامية التي وظفت الديني لخدمة الهدف السياسي, فأصبح بعض نجوم الإفتاء يصدرون فتاواهم من منطلقات سياسية وأيديولوجية معينة ##فتاوي ضد تحرير الكويت بالاستعانة بالقوات الأجنبية## و##مقاطعة البضائع الأمريكية##. إن ظاهرة الفتاوي المثيرة للجدل جعلت العديد من الجهات والأصوات تطالب بتوحيد المرجعية الدينية للفتاوي واعتماد آلية الفتاوي الجماعية, وفي هذا السياق عقدت الكويت مؤتمرا حول ##منهجية الإفتاء في عالم مفتوح## أوصي بوضع ضوابط للإفتاء وإيجاد ميثاق شرف لعلماء الإفتاء, كما عقد مؤتمر عالمي للفتوي بمكة المكرمة وأصدر أول ميثاق للفتوي في التاريخ الإسلامي, ومنذ فترة ثار جدل في الساحة المصرية حول مشروع قانون معروض علي البرلمان المصري بتجريم الإفتاء من دون رخصة, و كان الأزهر قد وافق عليه إلا أنه جوبه بمعارضة واسعة من قبل دعاة الإفتاء الجدد وجماعة الإخوان المسلمين, وكان من حجة المؤيدين, أن الإفتاء مهنة لها ضوابطها مثل بقية المهن كالطب والهندسة والمحاماه, وهي تتطلب الحصول علي ترخيص, كما لا يمكن ترك الإفتاء ساحة مستباحة لغير المؤهلين علميا, خصوصا من قبل الدعاة الجدد الذين تأهلوا في الطب والهندسة والزراعة وتحولوا إلي مفتين عبر الفضائيات, كوسيلة للتربح والثراء والنجومية, أما الرافضون للمشروع فقد قالوا إنه سيكبل ألسنة الذين يقولون كلمة الحق, وأنه يهدف إلي مصادرة الحريات وتكميم الأفواه.
في تصوري أن رخصة الإفتاء ليست هي الحل, وسيبقي النص التشريعي من غير فاعلية, فنحن اليوم في عالم السموات المفتوحة, كما أن توحيد المرجعية الدينية لا سبيل إليه, فالإسلام لا يعرف نظام ##البابا## وأما آلية ##الفتاوي الجماعية## فلن تمنع الناس من استفتاء من يثقون بهم من العلماء, فضلا عن أنها آلية غير مرنة ولا يمكن الاتفاق عليها بسبب ضبابية معايير اختيار أعضائها, كما أن قياس الإفتاء علي مهنة الطب قياس مع الفارق لأنها مهنة احتكارية مرتبطة بنقابة مهنية تستهدف الكسب المادي ومنع المنافسة, فهي قيود لحساب المهنيين لا المهنة, والإفتاء ليس كذلك إذ لا كهنوت ولا احتكار للرأي الفقهي في الإسلام, وإن تأميم الفتوي في عالم مفتوح ضرره أكثر من نفعه, كما أن الفتوي غير ملزمة, للمسلم أخذها أو رفضها, مثلما للآخرين أن يعارضوها.
في تصوري أن كل الحلول المطروحة لن تجدي, لأن أزمة الفتاوي جزء من أزمة الخطاب الديني العام, ولن يجدي علاج العرض دون معالجة الأصل- الخطاب الديني: آلياته ومضامينه وبناه- كما أن المفتي فرد في مجتمع يقتات بالسياسة, فهو خاضع لتأثيراته, لذلك لا يمكن حل أزمة الفتاوي إلا بمعالجة عقبتين رئيسيتين حاكمتين لعملية الفتوي, هما: 1- تطوير التكوين المعرفي والعلمي للمفتي عبر الانفتاح علي معارف وثقافات العصر ودراسة المناهج النقدية المعاصرة واستيعاب ثقافة الاختلاف وتجاوز الرأي الأحادي المنغلق علي المذهب وتحري المقاصد العليا للشريعة. 2- ضمان حيادية واستقلالية المفتي تجاه ثلاثة مؤثرات هي: ضغوط السلطة السياسية, وتأثير الأحزاب الدينية المسيسة, ورهبة الرأي العام العاطفي.