صدر كتاب مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين عام 1938م. بعد أن وقعت مصر معاهدة 1936م, التي أنهت بها الاحتلال البريطاني رسميا. وأصبحت بمقتضاها دولة مستقلة. وقد كان في مصر في ذلك الوقت, شعور عام ببداية فترة جديدة من تاريخ مصر. التي باتت تحكم بحكومة وطنية تحظي بأغلبية شعبية. فماذا يعني هذا؟ وما يمكن أن تفعله مصر بإستقلالها؟
الإستقلال, كما يقول طه حسين, ليس غاية في حد ذاته,وإنما وسيلة لبلوغ أسمي الغايات. وأسمي الغايات بالنسبة للفرد هو الحرية والسعادة. وبالنسبة للمجتمع, هي بلوغه أعلي درجات الحضارة. وهذا يأتي من إعلاء شأن الفرد وإعمال العقل والمنطق كمنهج.
تصل المجتمعات إلي الحضارة الراقية عن طريق عدة مراحل: المرحلة الأولي, هي مرحلة سيطرة الدين والإيمان الأعمي. حينما يتحكم الدين في كل حياة الفرد والمجتمع. ثم تمر الحضارة بعد ذلك بعدة مراحل. تنتهي بالمرحلة الأخيرة. عندما يستقل العقل عن الدين. بدون أن يصطدم أو يعادي أيا منهما الآخر. فوظيفة العقل هي هداية الإنسان في حل مشاكله المادية والحسية. ووظيفة الدين إشباع الناحية الروحية للفرد, وهدايته إلي كل ما هو نبيل. ومواساته في آلامه ووحدته.
فالحضارة الغربية اليوم وصلت إلي هذه المرحلة الأخيرة. حيث تحقق التوازن بين العقل والدين. وترك العقل حرا, ليستخدم العلم والمنطق لحل المشاكل المادية, والاستفادة من الثروات الطبيعية وتسخيرها لمصلحة المجتمع. ولوضع القوانين والدساتير, التي تهدف إلي تأكيد حقوق الإنسان, وحماية حريته وعرضه وماله. وتؤكد حقه في طلب العقيدة والسعادة كما يريدها.
نجد هنا تأثير الفكر الفرنسي علي طه حسين, كومتيه ورينان ودرخيم وأناضول فرانس وأندريه جيد. فأوربا بالنسبة لطه حسين, هي الحضارة الإنسانية والتمدين والديموقراطية. وليست الحضارة الغربية حضارة جافة مادية فقط, كما يدعي أهل الشرق. إنما انتصارها المادي يرجع إلي ثرائها الروحي. متمثلا في الأعمال الأدبية والفنية العظيمة. ويرجع إلي نضوج تجربتها السياسية في شئون الحكم.
يقول طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر,إن مصر يجب أن تكون جزءا من أوربا حضاريا. لأن هذا هو الطريق الوحيد لكي ننتمي للعالم الحديث. ولأن اتفاقية الجلاء واعتراف دول أوربا باستقلال مصر, هو بمثابة اعتراف وثقة بقدرة مصر علي أن تكون دولة حضارية مثل أية دولة أوربية. أي أنها دولة تحترم حقوق الإنسان وحريته. وتحكم بالنظم البرلمانية الحديثة.
فعلينا أن نكون أهلا لهذه الثقة. وهذا لا يعني أن نصنع حضارة خاصة بنا, يمكن مقارنتها بالحضارة الأوربية. وإنما لكي نقنع أنفسنا بأنه ليس هناك أية فروق بين الرجل المصري والرجل الأوربي. فالله سبحانه خلقنا للمجد والرفعة, ولم يخلقنا للضعف والمهانة كما يتصور البعض. ولكي نكون مثل الأوربيين, يجب أن نسير في نفس الدرب الذي ساروا عليه. ونأخذ حضارتهم بما فيها من حلو ومر وخير وشر.
كان معظم الكتاب والمفكرين في ذلك الوقت, ومنهم أحمد أمين, يصنفون دول العالم إلي دول شرق ودول غرب. وكانوا يضعون مصر مع دول الشرق نظرا لموقعها الجغرافي. أما طه حسين, فيقول إن مصر ثقافيا وحضاريا, هي دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة. فالعالم ينقسم إلي حضارتين لا ثالث لهما. الأولي, تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة وفلسفة اليونان والقانون الروماني. والثانية, تأتي من الهند.
ومصر تنتمي إلي الحضارة الأولي. فلماذا إذن ينظر المصريون إلي أنفسهم علي أنهم من أهل الشرق؟ يأتي هذا بسبب اللغة والدين. والمشاركة في هموم الاحتلال والتخلف. وما دمنا متخلفين مثل دول الشرق, ونتحدث بلغتهم, فنحن مع حضارة الشرق. ولكن تاريخ مصر يقول عكس ذلك.
مصر كانت عبر التاريخ علي اتصال بدول البحر المتوسط وبحر إيجة. وكانت هي نفسها مهد حضارة غمرت الآفاق آلاف من السنين. هذه الحضارة هي جذور وأصل الحضارة الغربية الحديثة. وخلال التاريخ, كان تأثير حضارة مصر علي اليونان, وتأثير حضارة اليونان علي مصر واضحا ومستمرا. وحتي عندما كانت مصر جزءا من الدولة الإسلامية, نجدها تستقل بشخصيتها منذ حكم ابن طولون. وكانت علي اتصال بحضارة الغرب والبحر المتوسط أكثر من حضارة الشرق. لماذا إذن تخلفت مصر عن دول الغرب حضاريا؟
يقول طه حسين إن ذلك يرجع إلي الاحتلال التركي. فهو الذي قضي علي حضارة مصر, ولفترة طويلة. وجعلها تمر بعصور مظلمة مثل العصور المظلمة التي مرت بها أوربا من قبل. وبالرغم من كل ما قيل عن الأزهر, إلا أنه قد حمي الإسلام من الأتراك.
لكن عصور الانحدار والتخلف انتهت في مصر منذ أن تيقظت من ثباتها بالحملة الفرنسية وحكم محمد علي. وبدأت تأخذ من أوربا علومها وأسلوبها في الحكم. وصار كل شئ في مصر غربي. حتي المؤسسات الإسلامية في مصر مثل المحاكم الشرعية, كانت علي غرار النمط الأوربي. حقيقي هناك فروق بين مصر وأوربا حاليا, لكن هذا يأتي من أن عصر النهضة الأوربية قد بدأ في القرن الخامس عشر. أما عصر النهضة في مصر, فقد بدأ مع بداية القرن التاسع عشر. لكن مصر سوف تلحق بأوربا في وقت قصير إن شاء الله.
الحضارة الأوروبية منفصلة عن الدين. لذلك يمكن لمصر أن تأخذ من حضارة الغرب. دون الخوف من تأثير هذه الحضارة علي ديانتها. فالحضارة الإسلامية قديما أخذت من حضارة اليونان وحضارة الفرس والهند بدون مشكلة. وفي الواقع ليس هناك حضارة غربية وأخري إسلامية. إنما هي كلها أطوار مختلفة لحضارة واحدة. هي الحضارة الإنسانية. الكل قد ساهم فيها بقدر كبير أو صغير.
بدأت هذه الحضارة في مصر. ثم انتشرت منها إلي جميع أنحاء العالم القديم. ثم خبا نورها في مصر ليسطع في اليونان. ومن اليونان إلي الإسكندرية والشام. ثم أسهمت الإسكندرية والشام والفرس والترك والهنود في الحضارة الإسلامية, التي استمرت أربعة قرون. ثم انتقلت عن طريق الأندلس وصقلية إلي أوربا.
هذه الحضارة تعرف اليوم خطأ بالحضارة الغربية. وإنما الاسم الصحيح لها هو الحضارة الإنسانية. فهي بمثابة النهر الذي يصب فيه الكل. وينهل منه الجميع. ونحن نتساءل بدورنا. لماذا الخوف من الحضارة الغربية؟
الخوف من الحضارة الغربية يأتي من عدم الثقة في أنفسنا وفي قدراتنا. ويأتي من مجموعة تحتكر تفسير الإسلام. وتعارض الحضارة الغربية من منطلق ديني بحت. خوفا من تأثير هذه الحضارة علي مفهوم العقيدة. لكن هذا الخوف لا مبرر له. لأنه ناتج عن عدم فهم لكلا من الديانة الإسلامية والحضارة الغربية علي السواء. وكل الذين ألموا بأصول الديانة الإسلامية, وكانوا ذو ثقافة واسعة. مثل الكندي والفارابي والرازي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون. ومن المحدثين, أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين, لم يجدوا أي تعارض أو خوف من الاستفادة من الحضارات الأجنبية, مع الاحتفاظ بالأصول الإسلامية التي تدعو لها الشريعة الغراء.
ضعفنا وتخلفنا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد وجودنا. وليست الحضارة الغربية. فماذا يحدث لو تسلح جيشنا اليوم بالسيوف والرماح والسهام. وإستخدم أسلوب الكر والفر, الذي كان مستخدما أيام الفتوح الإسلامية؟ وماذا يكون عليه حالنا, إذا رفضنا استخدام المضادات الحيوية والأسلوب الحديث في التشخيص والعلاج, واكتفينا بأسلوب العلاج المتبع أيام صدر الإسلام؟ وإذا كانت الحضارة الغربية هي الصاروخ والطيارة والسيارة والتليفزيون والفيديو والتليفون والكهرباء والذرة والكمبيوتر والفاكس, وإذا كنا نقبل كل ذلك بسهولة وبشهية نحسد عليها. لماذا إذن الخوف من الحرية والديموقراطية والفلسفة والأدب والفن والموسيقي الغربية؟
من يقول إن كل هذه الأمور محلية تصلح للغربيين ولا تصلح لنا, كما يدعي بعض مشايخنا؟ كل هذه موضوعات ثقافية لا دين لها ولا وطن. هي نتاج التراث الإنساني. تعبر عن آمال وأحزان الإنسان في كل مكان وكل زمان. وإذا كانت اليابان قد أخذت من الحضارة الغربية, ونهلت منها كل منهل. دون أن تفقد شخصيتها أو دينها. فنحن من باب أولي, أحق بالاستفادة من الحضارة الغربية التي نحن مؤسسيها. دون خوف علي شخصيتنا. لأن جذورنا أثبت وأقدم وأعرق.
حمايتنا من الغزو الفكري الغربي, هي دعوة غبية مغرضة. تبغي حماية ضعفنا وتخلفنا. وتجد قبولنا من الطغاة وزبانية الحكم الشمولي. لأن الرياح الغربية تحمل معها بذور الحرية والديموقراطية. وهذا هو الخطر الحقيقي علي الفكر المظلم والنظم الاستبدادية البغيضة التي تحكم المنطقة دون هوادة. ويخبرنا التاريخ القديم منه والجديد, أن عربة الحضارة لا تجر بالعبيد. وإنما تقاد دوما بالأحرار, متي عصف الزمان واشتدت الأخطار.