إذا كنا في اليوم الأول من شهر توت نبدأ العام القبطي,فالتاريخ القبطي أقدم من تاريخ الشهداء بمئات السنين.والتقويم القبطي أقدم من التقويم الغربي,بقرون وأزمنة سحيقة القدم من عمر الإنسان علي كوكب الأرض,فالمصريون القدماء هم أول من وضعوا للزمن تقويما,وقسموا السنة إلي اثني عشر شهرا,وجعلوا الشهر ثلاثين يوما.والمعروف أن تقويمنا القبطي أو المصري يرجع علي الأقل إلي القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد,وعلي التحديد إلي عام4241 ق.م.
وتقويمنا القبطي أو المصري يختلف عن التقويم الغربي في نقطة الابتداء.فالتقويم الغربي وهو السائد الآن في كل العالم,اتخذ الشمس قاعدة للحساب.أما التقويم القبطي فيختلف في ذلك.علي أن المصريين القدماء لم يكونوا غافلين عن الشمس,إنهم عرفوها وقدسوها وكرموها كإله أو رب.
وهي عندهم(رع) الذي دخل اسمه حتي في تركيب أسماء بعض ملوكهم:من ذلك خفرع-منقرع-من كاورع- رعمسيس (أبن رع) وكذلك في تركيب أسماء مدائنهم وقراهم ومنها مثلا:(القاهرةRA-KAHI- كاهي رع-أي أرض رع) -المطرية أو البطرية-بيت رع-مدينة(رعمسيس)في أرض جاسان(سفر الخروج1:11),(التكوين 47:11),(الخروج12:37),(العدد33:3, 5).
وإذن لم يكن عبثا,ولا عن جهل أو تجاهل,بل عن قصد لم يتخذ قدماء المصريين الشمس قاعدة للحساب في تقويمهم العريق…وإنما اتخذوا نجما آخر,هو النجم الشعري اليمانية المسمي باليونانية سيروسSORIES وكان يسميه المصريون(سبدت) وهو ألمع نجم في السماء بين كوكبة أو مجموعة نجوم الكلب الجبار أو الأكبر-ويبعد حوالي 8.5 سنة ضوئية عن الأرض,وشروقه الاحتراقي علي الأفق الشرقي قبيل شروق الشمس,وهو يوم وصول فيضان النيل إلي العاصمة(منف).وقد حسبوا الفترة بين ظهوره مرتين,وقسموها إلي ثلاثة فصول كبيرة وهي:
1-فصل الفيضان(آخت).
2-وفصل البذر والزرع(برت).
3-وفصل الحصاد(شمو).
وقسموا السنة إلي اثني عشر شهرا,كل شهر منها ثلاثون يوما,وأضافوا المدة الباقية 5 وربع يوم,وجعلوها شهرا بذاته,أسموه بالشهر الصغير أو (النسئ).وبذلك أصبحت السنة المصرية 365 يوما في السنوات البسيطة,366 يوما في السنوات الكبيسة.وقد احترم الفلاح المصري منذ القديم هذا التقويم نظرا لمطابقته المواسم الزراعية,ولا يزال يتبعه إلي اليوم.
والجميل في النتيجة القبطية الزراعية أنك تقرأ فيها مثلا عن آخر زراعة الفاصوليا الشتوي في(الثاني من شهر توت)-واليوم الذي يزرع فيه البرسيم بالوجه البحري (4من توت)-واليوم الذي يزرع فيه الشبت(5من توت) واليوم الذي يجني فيه القطن لأول مرة(6من توت) واليوم الذي يزرع فيه الكرنب شتلا واللفت الشتوي (7من توت),ويوم تسميد السبانخ الدفعة الثانية(9/توت),واليوم الذي يزرع فيه السنط(10/توت),واليوم الذي يزرع فيه الياسمين ويجمع الزيتون(12 من توت).
وهكذا في كل يوم من أيام شهر توت,وبالمثل في كل يوم من أيام (بابة) ثم (هاتور) و(كيهك) إلي آخر أيام السنة القبطية -يحدد اليوم الذي يزرع فيه هذا النبات أو ذاك,واليوم الذي يحصد فيه الزرع,واليوم الذي فيه تجهز الأرض لزراعة البصل البعلي,واليوم الذي تحش فيه الحشة الأولي من الخبيزة,واليوم الذي يزرع فيه الترمس,واليوم الذي يجني فيه القطن للمرة الثانية,واليوم الذي تزرع فيه الحلبة,واليوم الذي يبدأ فيه حصد الفول السوداني,واليوم الذي تزرع فيه البسلة البلدي,واليوم الذي تزرع فيه الملوخية في محافظتي قنا وأسوان,واليوم الذي يجمع فيه الكرنب والبامية,واليوم الذي تزرع فيه الكراوية بالوجه البحري,واليوم الذي يزرع فيه الكمون والأنيسون (الينسون),واليوم الذي يزرع فيه الثوم البعلي,واليوم الذي يجمع فيه الباذنجان والكوسة والخيار…
وهكذا نجد في النتيجة القبطية يوما يوم,دليلا مرشدا للفلاح متي يبدأ بالزرع ومتي يسقيه,ومتي يحصده…إلخ مما يدل علي أن المصريين وضعوا التقويم المصري متمشيا تماما مع طبيعة مصر وجوها ومناخها وأرضها…
ولذلك وعلي الرغم من أننا اليوم نستخدم التقويم الغربي في تاريخ الأحداث لأنه صار هو التقويم العالي المستعمل في جميع بلاد العالم الغربي والشرقي,وعلي الرغم من أن التقويم الغربي صار بمثابة اللغة العالمية التي يتداولها جميع الناس,لسهولة الفهم وسرعة الاتصال,ومنعا من اللبس والغموض وما إليها من أسباب الاغتراب,فإن التقويم المصري مازال هو المستعمل عند الفلاح وهو الذي يناسب طبيعة بلدنا مصر ومناخها,ومن حيث أنها أولا وأبدا أرض زراعية,بل ولنا أن نفخر بحق أنها أجمل أرض زراعية,وقد وصفها الكتاب المقدس أنها(جنة الرب أرض مصر)(سفر التكوين13:10) وهي بحق جنة الرب,غنية بالنباتات من الأعشاب والبقول والأشجار بصورة لا نجد لها نظيرا في كل بلاد الشرق والغرب…إنها غنية بالفاكهة بكل أنواعها في كل فصول السنة,لا يخلو وقت من جميع أيام السنة,من أكثر من نوع من أنواع الفاكهة فضلا عن كل أنواع الحبوب والبقول والخضروات المغذية والبانية لصحة الإنسان,ولسنا نقصد فقط القمح والقطن,والفول والعدس والبطاطس والكوسة والبامية والملوخية والفاصوليا,والبسلة وغيرها,وإنما أيضا الطماطم والخص والجرجير والمقدونس(البقدونس),والكرات,والبصل والثوم…وقد شهد بنو إسرائيل بعد خروجهم من أرض مصر بما فقدوه وتفقدوه من خيرات مصر وقالوا(قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم والآن قد يبست أنفسنا(سفر العدد11:5, 6) ,(الخروج16:3).
ونعود فنقول إنه بموجب التقويم المصري يبلغ طول السنة365 يوما+6ساعات,أو ربع يوم.وبهذا يفترق طول السنة الشمسية(وهو 365 يوما +5ساعات+48دقيقة+46ثانية) عن السنة المصرية بمقدار 11دقيقة+14ثانية وهذا الفرق يتجمع فيبلغ إلي يوم كامل في كل 128 سنة.
وبذلك نفهم لماذا لم يتخذ قدماء المصريين الشمس أساسا لتقويمهم العريق,مع أنهم عرفوها منذ القديم وقدسوها وعبدوها,ورأوا فيها نعمة الله الكبري,تشرق فتضئ الكون كله,وفيها ومنها يأخذون النور والدفء والحرارة اللازمة لحياة النبات والحيوان والناس-وإنما اتخذوا نجم الشعري اليمانية(سبدت),ذلك لأن السنة الشمسية لا تحقق لهم الثبات الذي تتميز به السنة النجمية القائمة علي رضد الشروق الاحتراقي لنجم(سبدت)أو الشعري اليمانية.
هذا عن التقويم القبطي وهو التقويم المصري القديم باقيا إلي اليوم مصونا ومحفوظا ومعمولا به في حياة الفلاح المصري ولاسيما في ريف مصر وقراها ونجوعها,ثم مصونا ومحفوظا ومعمولا به في حياة الأقباط الدينية,وفي طقوس كنيستنا القبطية,كنيسة الإسكندرية المرقسية,في تحديد موعد عيد القيامة وتحديد جميع أعيادنا الأخري السيدية السبعة الكبري والسبعة الصغري,وأعيادنا الأخري,أعياد العذراء القديسة مريم-وللعذراء عندنا سبعة أعياد,وعيدي رئيس الملائكة ميخائيل(12من هاتور ثم 12من بؤؤنة) وأعياد الملائكة الآخرين وأعياد الشهداء والقديسين والقديسات,وتحديد مواسم الأصوام العامة السبعة ومنها الصوم الكبير,وصوم الميلاد,وصوم الرسل ,وصوم العذراء مريم,وصوم يونان وصوم البرامون…
علي أن تراث مصر القديمة باق أيضا في لغتنا القبطية التي نستخدمها اليوم في صلواتنا وقداساتنا وسائر خدماتنا الدينية وأسرارنا الكنسية,وألحاننا وموسيقانا الكنسية,وهي متغيرة الأنغام بحسب مواسمنا الدينية.ففي الأعياد الكبري أنغام ومردات.لعيد القيامة وأيام الخمسين المقدسة ألحان وأنغام,ولأحد الشعانين,وعيد الصليب أنغام وألحان,وفي الصوم الكبير أنغام وألحان,وفي صوم الميلاد أو شهر كيهك أنغام وألحان,وفي صوم الرسل,أنغام وألحان,وفي صوم العذراء ألحان وأنغام…وهكذا في عيد رأس السنة القبطية وغير ذلك من مناسبات علي مدار السنة الدينية.
واللغة القبطية هي بعينها اللغة المصرية القديمة كما كان المصريون القدماء يتكلمونها وينطقونها…هذه اللغة المصرية حافظت عليها الكنيسة القبطية في طقوس صلواتها وكتبها ومخطوطاتها بعد أن صار من المتعذر استخدامها لغة للكلام,لشدة ما عانت من اضطهاد,فقد كان بعض الحكام يهدد الأقباط بقطع لسان كل مصري يتكلم لغة القبط مع أنها لغة مصر القديمة.ومع ذلك استمر الكلام بها بطريقة سرية,واستمرت الكتابة بها بطريقة محدودة,بل وعاشت اللغة القبطية في اللهجة العربية الدارجة المستخدمة فعلا كما يتحدث بها جميع المصريين,مسيحيين ومسلمين.
هذه اللهجة العربية الدارجة تعيش فيها أكثر من تسعة آلاف كلمة قبطية.