يعرف التعويض في المجال القانوني بأنه التزام من أحدث الضرر بتعويض المضرور تعويضا بقدر ما فات الأخير كسب وما لحق به من خسارة.
صحيح أنه قد يختلف مقدار التعويض إذا كان المضرور قد شارك في إحداث الضرر لنفسه, وعلي كل حال فقد ورد بالتوراة كأقدم وثيقة إلهية (سفر الخروج إصحاح 21) أنه إذا ضرب رجل آخر وأسقطه في الفراش ثم قام الأخير فإنه يعوض عن عطلته, وإن فتح إنسان بئرا ولم يغطه فوقع فيه ثور فإن صاحب الثور يعوض,وفي الفقه الإسلامي أن من أحدث ضررا فعليه إصلاحه.
وقاعدة التعويض العام وردت في القانون المدني صريحة وواضحة إذ نصت المادة (63) منه علي أن كل خطأ يسبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض, والتعويض ليس لازما أن يكون نتيجة خطأ فقط, إنما يجوز أن يكون مبنيا علي عقد أو تعاقد. أو مرتبا لنصوص تفرضه, ولو لم يحدث خطأ فمثلا إذ اتفق طرفا التعاقد علي تعويض في حالة التأخر في الوفاء بالالتزامات الناتجة عن تعاقدهما, ولو لم يحدث ضرر لكان الاتفاق بينهما نافذا وصحيحا, وقد يرتب المشرع تعويضا قانونيا مثل أن يعوض من يعثر في أرضه علي آثار أو معادن نظير استيلاء الدولة عليها. كل ذلك نابع من الدستور وهو قانون البلاد الأعلي. فالمادة (34) منه أوجبت تعويض من تصادر ملكيته (تنزع ملكيته) للنفع العام.
وغير غريب علي من يعلمون القانون القول بأن التعويض قد يرتب دون حدوث خطأ وبالمخالفة للقاعدة الأم الواردة في المادة 63 مدني سالف الإشارة إليها, وهي التي توجب أن يكون هناك خطأ وترتب عليه ضرر وسببه بينهما أي التي يفترض لأعمالها (منح التعويض) أن يكون من أحدث الضرر هو الملزم بالتعويض عنه إذ أن هناك حالات يتم التعويض فيها ولو لم يكن الملزم بالتعويض هو من أحدث بفعله شخصيا الضرر عندئذ يثور التساؤل التالي:
ولماذا إذا يلزم بالتعويض؟!!
وإذا كانت القاعدة هي أن التعويض يشمل الضرر المادي والأدبي ومع ذلك فهناك حالات لا يكون فيها ثمة ضرر أدبي أو معنوي.
هذه المقدمة الطويلة -وهي لازمة- ما هي إلا مدخل لبحث موضوع هذه الأيام وما كنا لنتناوله إلا لأنه شغل ولازال يشغل الرأي العام المصري والعالمي ألا وهو إنفلونزا الخنازير.
بداية فالدولة لها الحق كل الحق في اتخاذ إجراءات المحافظة علي الصحة العامة وحماية مواطنيها بل أن ذلك واجب عليها أيضا ولكن إن حدث ضرر للمواطنين عند قيامها بذلك الواجب وإتيانها لهذا الحق فهل تلزم بالتعويض عما تحدثه الإجراءات التي تتخذها من ضرر للعامة؟!!
القاعدة إنه لا مانع من مساءلة الدولة عن أية أضرار تحدثها إجراءاتها لحماية الصحة العامة أو سلامة الوطن رغم أن سبب إتيانها لهذه الإجراءات كان رغما عنها إلا أنه ونظرا للأنها الراعية للوطن والساهرة علي العدالة وتوفير فرص العمل الكريم للمواطنين فإن هذه القاعدة يلزم أن تكون لها حدود ما تؤدي للمواءمة بين حقها وواجبها. هذا وحق المواطن المضرور في الحصول علي تعويض إعمالا للتوازن في الحقوق والواجبات الذي يفرضه الواقع المعاش حاليا.
إذا ما مدي التزام الدولة بالتعويض عن الإجراءات التي اتخذتها بشأن إنفلونزا الخنازير إن كان قد ترتب عليها ضرر بالغ؟! لابد أن نشير أولا إلي أن قيام الدولة بإجراءات استثنائية لمواجهة هذا الوباء -أو الخطر بحسبانه لم يصل والحمد لله لحد الوباء- ليست بحالة جيدة إذ سبق للسلطات أن اتخذت إجراءات قوية ومشابهة في موضوع الحمي القلاعية للمواشي وإنفلونزا الطيور ونحن لن نناقش ما إذا كان ما اتخذته صحيحا من عدمه بحسبان أن ذلك ليس من اختصاصنا ولا نسمح لأنفسنا بالدخول في هذا النطاق مطلقا لأن الأصل في نظرنا أن السلطات حسنة النوايا ويفترض فرضا لا يقبل العكس -إلا بالدليل القاطع- أنها تسعي دائما لخدمة مواطنيها وسلامتهم.
في ظاهر الأمور وبحسب بساطة فهم النصوص فالدولة لم تكن مسئولة عن وجود هذا المرض الذي دفعها إلي ذبح المواشي والطيور وأخيرا الخنازير ولكن إعمالا للفكر القانوني الحديث والصحيح والذي أصبح ثابتا وواقعا حاليا فإنها تسأل عن الأضرار التي قد تلحق بالمواطنين سيما وإن كان الضرر خاصا فلا تكليف بغير مستطاع ولا ضرر ولا ضرار.
ومسئولية الدولة عن الضرر الذي لحق بأصحاب المواشي والطيور والخنازير الذي نتج عن إهدار ثرواتهم وقطع أرزاقهم يؤسس علي فكرة قانونية لم تعد حديثة الآن وهي فكرة المخاطر.
وفكرة المخاطر هذه وجدت أول ما وجدت بحكم صادر من مجلس الدولة الفرنسي في 21 / 6 / 1895 وهو حكم شهير في مجال القانون العام يسمي حكم كاميه فالسيد كاميه هنا كان عاملا في ترسانة لإصلاح السفن رحال عمله انفجرت مطرقة آلية نتج عنها شظية أصابت يده وأعجزتها وأظهر القضاء الفرنسي براعته وألزم الدولة بتعويضه عن الإصابة. رغم أنه لم يكن هناك; خطأ قد صدر فيها وبرر القضاء سند التعويض بفكرة المخاطر وأن الدولة أصلا ملزمة باتخاذ إجراءات السلامة لمواطنيها وما ذلك إلا لأن هناك التزامات متبادلة بينهم وبينها.
وفي القضاء المصري -قضاء مجلس الدولة الذي أشرف بعضويته صدرت أحكام عديدة من دوائره- الموقرة تقوم علي ذات الفكرة وقد ناصرت حقوق المواطنين آخذة في الاعتبار مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة وأن الدولة ملزمة بتوفير سبل العيش الكريم لمواطنيها وهذا الالتزام يرتب دون شك التزاما فرعيا عليها تعويض المواطن عن قطع مصدر رزقه إذا كان ذلك لدواعي حفظ الأمن والسكينة أو مراعاة للصحة العامة.
وللموضوع تفاصيل وللحديث بقية
* نائب رئيس بمجلس الدولة