ما نعانيه في الأيام الأخيرة من لعنة الحروب وثقافة الموت والكراهية يجعلنا في قلق لا يحد الفاجعة في ضمير الشعوب, والفاجعة تكمن في انهزام العرب أمام الضربات التي تحل بهم وهم مدركون للفتك الذي يحل بهم وكأنهم لا يأبهون, وهذا يطرح سؤالا كبيرا علي ولائهم لتاريخهم وهويتهم, فالعرب لا يبكون ولعلهم لا يتوجعون أقله أنهم لا يشكون آلامهم وكانهم صالحوا ما اعتبروه الحتم والقدر وكأنهم استقالوا من العقل أو استقالوا من المروءة.
وسط هذا اليأس العميم جاء الفرح من خبر صغير نشرته وسائل الإعلام الأجنبية وهو تحقيق علمي سبب سلاما وسط الحرب ورجاء وسط اليأس وتفائلا في خضم التقاتل والتشاؤم ورؤية في زمان عزت فيه الرؤي وصارت فيه كلمة الحق والسلوك بالروح والحق عزيزة وعلما وسط الجهل والتجاهل, ولقد زاد وهج هذا الخبر انه يأتي من بلد كنا قد بدأنا نتشكك في خصوبة أراضيه وعطائه التاريخي وأمانة أبنائه ومستقبله الواعد الا وهو العراق بلاد ما بين النهرين, التي شهدت ميلاد الحضارة الآشورية وكان مسرحا لاحداث دينية كبري أعادت صياغة وجه التاريخ البشري والتي خصص لها مؤخرا متحف اللوفر الشهير بباريس صالة كبري.
والخبر ليس هو اكتشاف حقل بترول جديد قد يسبب الحروب والأحقاد لأنه صدق الذي قال بان المال اصل كل الشرور والذي اذا ما ابتغاه قوم ضلوا وضربوا أنفسهم بأوجاع كثيرة, ولكن الاكتشاف الأثري الثمين هو اكتشاف مقبرة العظيم في الأنبياء حزقيال, وكأن الحجر أراد أن يقوم بما لم يرتض ان يقوم به البشر وهو تآلف القلوب وتلاقي العقول وتلامس الركب الساجدة والجباه الخاشعة أمام عظمة الله لانه حقا أن صمت هولاء وأولئك من الناس عن قول الحق ومواجهة التحديات بالحب والأبداعات فلابد أن تتكلم الطبيعة في شخص الحجارة, والنبي حزقيال نبي كبير في التراث العبراني والتاريخ اليهودي فهوعند اليهود قائد ونبي رأي رؤي من الله كبيرة وعند المسيحيين مبشر بيسوع وبأمه العذراء وعند المسلمين ولي من أولياء الله بل ونبي من لدن الرحمن, ولقد كتب الباحث ستيفين لي مايرز في صحيفة النيويورك تايمز الواسعة الانتشار في صفحة العلوم والثقافة قائلة (الرجاء اي رجاء العراقيين بنبعث من قبر أحد الأنبياء) ففي قرية واقعة علي شاطئ نهر الفرات العتيق الأيام والذي ذكره الوحي الإلهي في سفر التكوين كاحد رؤوس الأنهار الأربع التي تسقي الجنة (تك 2 : 14 ) وهذه الضيعة تسمي (كيفييل ويلاحظ الشبه بينها وبين اسم ايزيكييل بالعبرانية) والتي صمدت أمام حروب كثيرة ونجت من دمار الكوارث الطبيعة وشهدت ازدهار واندحار إمبراطوريات وحكام خلال عقود طويلة من الزمن, وكأنها تتحدي الأيام الصعبة التي يجوزها شعب العراق اليوم وتطمنئنه في الام زمانه الحاضر وعلي أنها لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن في مستقبله, فهناك في هذه البقعة المجهولة يتم العثور علي قبر النبي العبراني حزقيال النبي الكتابي الذي عاش بين العبرانيين وعلمهم وقادهم في أحلك فترة في تاريخ شعب الله خلال القرن السادس قبل الميلاد ويري علماء الكتاب المقدس أنه هناك وحسب التراث العبراني (راجع الموسوعة العبرانية باريس ذ ص 1993-
ص 395 ) قد رأي حزقيال رؤياه الكبيرة لله والرؤية القديمة التراثية لله يريد ان يراها الناس اليوم في تأويليات جديدة في وجوه بعضهم البعض ويتطلعون أن يحمل اليهم هذ ا النبي العظيم الذي يجمع في شخصه اليهودية والمسيحية والاسلام رؤية وقراءة جديدة, فالانبياء دوما متوجعون وهم موجعون أيضا لأن الله في أحشائهم يئن فالكون بهم لابد أن يهتز وأن تتهدم القلوب العتيقة لكي يبنيها الله وحده من جديد . فحزقيال رمز لأصحاب الرسالات التي تنادي بالحرية في وسط السبي والعبودية العميمة فلقد كان بلده وشعبه مسبيا ومحتلا ومهجرا بسبب غضب الله عليه وعقابا لتركه وصايا الله وعبادته للاوثان ومع ذلك بل ورغم ذلك نراه واثقا متواضعا (وأنا بين المسبيين عند نهر خابور أن السموات انفتحت فرايت رؤي الله) حز1 : 1 السماء تنفتح لصادق واحد من بين المسبيين والمهجرين والمهمشين في الارض ولم ير حزقيال في قبول الدعوة كبرياء ولا أنانية بل واجبا ورسالة وخلاصا للشعب الجالس في الظلمة ,الشعب الذي تخلي عنه رعاته الاسميون سواء السياسيين او الدينيين لانهم انشغلوا برعاية انفسهم كما شهد الروح علي فم حزقيال (المريض لم تقووه والمجروح لم تعصبوه والمكسور لم تجبروه والمطرود لم تستردوه والضال لم تطلبوه بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم ):حز 34 .ولقد ارسله الله ليس فقط الي رعاة منشغلين بانفسهم وبمصالحهم بل وكنتيجة حتمية الي شعب مقهور ومشتت كغنم لا راعي لها وبسبب الامه لا يشأ أن يسمع لله ولا لنبيه لانهم (بيت متمرد) حز 1 : 9 .حزقيال كان شاهدا علي النار الإلهية التي تحترق في داخله مشتاقة أن تعود إلي التبشير بالحياة الجديدة التي تأتي من رؤية الإنسان لوجه أخيه الإنسان صورة الله وأجمل ما خلق الله لأنه ما الفائدة من أن نقول (قولا) إننا نحب الله ونحن نكره (فعلا) الإنسان المخلوق علي صورته تعالي علي حد تعبير أحد تلاميذ المسيح ويحضرني قصة مصرية قديمة لاحد الحكماء لا تري في معني الجحيم إلا غياب وجه الآخر أي الإنسان الأخر المختلف وأن الناس في الجحيم سوف لا يرون وجه بعضهم البعض لأنهم سيكونون مربوطين الواحد في ظهر الأخر !!!, فالنعيم كل النعيم هو في القدرة علي رؤية الله في وجه كل إنسان وكل الإنسان وهذا لا يتم إلا بالتحولات الكبري والتوبات التاريخية وحينما يعطيي الله للبشرية الجديدة (قلبا واحدا) ويجعل في داخلهم (روحا جديدا) وينزع قلب الحجر من لحم الإنسان ويعطيه قلب لحم ووقتها سيسلك البشر في وصايا الله ويعملوا العدل وينفرد حزقيال بوصف هذا الزمن الجديد بانه (زمن الحب) حز 16 : 8 .نبي يبشر بالحب في زمن السبي والتشتت وعبادة الأصنام وخيانات شعب الله وانشغال الحكام والرعاة بانفسهم وأول مظاهر الحب هي الوصية التي أعطاها الله لنبيه حزقيال (يا ابن آدم عرف اورشليم برجاساتها) حز 16 :1 فبداية التوبات الكبري هي رؤية النجاسات وفظاعتها!!!
والشئ اللافت أنه وحسب رأئ علماء الاركيولوجيا أنه في القرن الرابع عشر الميلادي قام المسلمون بعمل ضريح أثري تيمننا بالنبي حزقيال وينتظر قبر النبي حزقيال مستقبل باهرا ليس فقط علي مستوي التعايش السلمي بين اتباع الأديان المختلفة بل علي المستوي السياحي وانتعاش السياحة الدينية التي هي سياحة السلام والخشوع مما يساهم في تجديد صورة العراق أمام نفسه وأمام العرب بل وأمام العالم أجمع. وفي هذا صرح السيد حسين رشيد رئيس المجلس القومي العراقي للأثار وهو مسلم سني (أننا نستطيع عن طريق التجديدات التي نجريها علي المكان مع المحافظة علي أبعاده الأثرية أن نظهر للعالم أجمع أن هذه المنطقة هي مهد الحضارات ومكان التعايش في سلام بين الشعوب). ويرجوا العراقيون بكل أطيافهم ان تعتبر هيئة اليونيسكو هذا الأثر من ضمن أثار ومقتنيات العالم الحضارية ويحتوي هذا الأثر الكبير علي قبر النبي حزقيال والمجمع اليهودي والأثر الإسلامي والبازار الذي تم بناؤه في القرن الثامن عشر أيام حكم الإمبراطورية العثمانية يوم تعايش العبرانيون والمسلمين في سلام ووئام, ولكن بمجرد ما إن خرجت أخبار البدء في ترميم هذا الأثر الكبير حتي خرجت أصوات من بعض وسائل الإعلام (كالعادة) تريد أن تشكك في صدق الحجر ونقلت أخبارا عن النية في تحويل المكان إلي جامع إسلامي ولكن الشائعات لا تتوافق مع الواقع.
وتعود أولي الإشارات التاريخية للمجمع اليهودي إلي القرن العاشر وبمجرد الإعلان عن الخبر توافد آلاف اليهود الاتقياء من كل أرجاء العالم للسجود أمام نبيهم العظيم , وأيضا ياتي المسلمون من كل حدب وصوب للتبرك ولزيارة نفس المكان الذي يؤمنون بانه قد تم فيه دفن مؤسس المدينة والمسيحيون يتقاطرون لتقديم الشكر للنبي الذي حسب لاهوتهم تنبأ بميلاد المسيح من العذراء .ولعل وراء قبر النبي حزقيال ما يطمئن قلوب المسيحيين في العراق لأن الرب يقول لهم (هانذا أسأل عن غنمي وافتقدها…..واخلصها من جميع الأماكن التي تشتتت إليها في يوم الغيم والضباب ..أنا أرعي غنمي وأربضها يقول السيد الرب ) حز 34 : 11 . ويعتقد العلماء اليوم أن مؤسس المدينة والنبي حزقيال هما نفس الشخص أي شخص النبي حزقيال. ويقول لك المرشد الذي يستقبلك في المكان بابتسامة عريضة متفائلة أيا كانت ديانتك وهو مسلم شيعي (أن حماية هذا الأثر العظيم لهذا النبي العظيم هو واجب إسلامي), وبالتالي فحماية البشر الذين هم أثمن من الحجر هو أيضا واجب إسلامي!! ويلاحظ الزائر علي حوائط المقبرة صورا للحجاج اليهود الذي عبروا قديما بالمكان ولم يمحها احد وهم يصلون , ويؤكد المرشد بأن تاريخ العراق هو تاريخ الحفاظ علي الرموز العبرانية واليهودية والمسيحية . وأذكر للتاريخ أنني التقيت طبيبا عراقيا في مدينة بيسانسون بفرنسا في الثمانينيات من القرن الماضي وكنا نتعلم معا اللغة الفرنسية استعدادا للدراسات العليا ووقتها جمعتنا الثقافة والفن والحب ولم أعلم الي اليوم أن كان مسيحيا أو مسلما وهذا هو العراق الذي نرجوه ونصلي من أجل رخائه وسلامه بكل أطيافه.