هذا المثل هو في واقع الأمر ##مثل قدوة##. وتفسيره لا يتطلب منا أبدا المرور من المستوي الرمزي إلي المستوي الديني, بل يكتفي بالدعوة إلي الاقتداء به في الحالات التي نعيشها الآن أي أن نقوم بتأوين المثل هنا والآن. والمطلوب هنا ليس أن نقوم بتحويل النص إلي مستوي آخر كما هو الحال في مثل الزارع. فالمهم في مثل الزارع هو العبورمن الصورة إلي المعني الديني. ذلك أن هدف المثل ليس إعطاء تعليم عن البذرة,وإنما من خلال الصور والكلام إعطاء صورة عن ملكوت الله. بينما المطلوب في مثل السامري هو أن نوسع معني المثل ليشمل كل الحالات المشابهة في الحياة البشرية اليومية.
فقد تم في الأساس طرح سؤال علي يسوع حول: ##من هو القريب؟##, وقد احتد النقاش حول هذا الموضوع بين علماء الشريعة, وكانت الآراء مختلفة بين الأطراف. فمنهم من كان يعتبر قريبا فقط من ينتمي إلي العرق اليهودي, ومنهم آخرون أقل تشددا من كان يعتبر قريبا غير الإسرائيلي الذي كان يعيش في أرض إسرائيلية. والسؤال مرتبط بالمطلب الأول الذي طرحه معلم الشريعة: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية, وبإمكاننا أن نقدر كيف أن التساؤل المطروح بهذه الطريقة من معلم الشريعة لا يتعدي الأمور النظرية والمبدئية: فهو يطلب المعيار الذي يستطيع من خلاله أن ينظم نفسه في جميع ظروف الحياة. وهو مستعد لقبول أي توجيه مهما بلغت صعوبته ومتطلباته علي شرط أن يكون واضحا, كما أنه مستعد لعمل أي شيء حتي النهاية. إن جواب يسوع يقود المتكلم معه وبشكل تدريجي إلي عمل تغيير جذري في المباديء. فيسوع لا يعرض أي مبدأ نظري ,إنما يتوجه رأسا نحو الخبرة المعاشة, ومن هذا المنطلق يقوم بتمييز ما هو جيد وما هو غير جيد.ومن ثم يقوم السيد المسيح بتحولين فيما يتعلق بسؤال معلم الشريعة: أولا من النظرية إلي التطبيق (القريب هو الذي أتعرف عليه من خلال الخبرة المعاشة, وهو ليس موضوع نقاش بين معلمي الشريعة ). ثانيا من الخارج إلي الداخل (السؤال الحقيقي ليس من هو قريبي, ولكن أري أمامي قريبا كل حين). المطلوب ليس أن أجد مقاييس أطبقها حتي أشعر براحة الضمير.يسوع يقدم صورة لإله كريم مع الإنسان. وبالتالي فأن الإنسان يجب أن يتخلي عن فكرته بالوصول إلي الكمال أن هو عمل بكل ما هو مكتوب. فطريق الكمال يمر بمراعاة احتياجات الآخر. فأمام الله كما يتكلم عنه يسوع, لا داعي لأن نتساءل إن كنا قد بلغنا الكمال كوننا نفعل كل ما يطلبه الله. وإنما رسالتنا هي أن نشارك الله بالاهتمام باحتياجات الآخر, بحيث نجعله يشعر أنه مقبول وغير مهمش لا من الله ولا من البشر. هذه هي رسالة يسوع والتي تلغي كل روح تتمسك بحرفية القانون, وتؤكد علي الله الذي يهتم بكل إنسان من غير حدود ولا تميز.
من المحتمل أن يكون معلم الشريعة الذي كان يستمع إلي يسوع قد تبني موقف الكاهن واللاوي: ومن المؤلم فعلا أن موقفهم قانوني وشرعي, لأن مساعدتهم للملقي أرضا تعني إنهم يتنجسون (بالدم) ولن يستطيعوا أن يقوموا بطقوس العبادة: نجد هنا مفهوما قانونيا يسمح لهم بالشعور براحة الضمير. ويقدم يسوع لهم هذا المثل ليبين لهم موقفه المعاكس تماما. إن القصة التي يرويها ليست مجرد مشادة كلامية مع طبقة دينية, بل مع عقلية منتشرة كانت تفضل أن تحافظ علي حرف القانون والشريعة والطقوس دون النظر إلي روح القانون. فحوي المثل في النهاية هو واجب هجر الفكرة حول امتلاك كتاب يحوي توصيات لما يطلبه, والتوغل في عمق الحياة. تسير خبرة يسوع المعاشة في الخط التالي: إن استقباله المحسوس لكل خاطيء ولكل إنسان محتاج, تظهر حياة لا تتعلق ولا تتبع نظاما يبتغي الطهارة الشرعية فقط, والشعور مع ذلك براحة الضمير, بل حياة تسير في خط محبة الله للقريب. فالسؤال المطروح ليس ## من هو قريبي ##, بل ## كيف أكون أنا قريبا للآخر##؟.
نجد في النص بعدا آخر هو التركيز علي العلاقة مع الله التي تقود إلي العلاقة مع القريب, السؤال هو التالي: ## ماذا يريد الله مني##؟. يجب أن نعلم أن الله لا يريد أن يجعلنا كاملين رغما عنا. وتصرفنا ليس وجها من أوجه رد الدين لله (ومن بمقدوره أساسا أن يدفع الدين لله؟). ما يريده الله منا هو أن نقبل في قلوبنا طريقته هو في جعل نفسه قريبا من كل شخص دون اسثناء. الذي يتعهد أن يعيش محبة الله هذه, يجد العون لأن يعيش نفس المحبة في مختلف الظروف, ومع جميع الإخوة. فقط من يدرك أنه موضع اهتمام الله يستطيع أن يعيش نفس الأهتمام اللامشروط بالقريب. هذا الاهتمام الذي يفوق العقلية القانونية لا يرتبط بالمعايير الكمية (بمن اهتم وبأي مقياس)؟, بل يتدفق من محبة الله الفياضة التي وهبها لنا.
فإن وجه الآب, الذي عاشه السيد المسيح والذي يكشفه لنا من خلال مواقفه وأعماله المحسوسة من استقبال ومساعدة لكل شخص, هو الوجه الذي علي كل مؤمن أن يعكسه عندما يكون قريبا من كل شخص. وهذا الاقتراب هو شرط أساسي حتي يستطيع أن يبقي الإنسان حيا. إن السؤال حول ##ماذا أعمل## و##من هو القريب## لا يجد جوابا من خلال وصايا جديدة يمكن أن تؤدي إلي نظرية قانونية جديدة, وإنما بالدعوة للقيام بخبرة شخصية موجهة إلي كل شخص, ليكتشف من خلالها احتياجات القريب الموضوع علي طرقات حياتي اليومية. فالعمل مع القريب لا حدود له لأنه لا ينتهي أبدا. وذلك لأن المحبة بلا حدود ولا تنتهي أبدا.. وصوت المسيح إلينا يصرخ: ##اذهبوا واصنعوا الرحمة أنتم أيضا كذلك##.