لعل أهم الدروس المتحصلة من حركة الاحتجاجات الشعبية علي نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران أن النظم السياسية الثورية مهما اتقنت لعبة الخطب الحماسية, ومهما تفننت في إطلاق الشعارات والتصريحات النارية لكي تلهب شعوبها وتشغلها عن همومها وقضاياها المعيشية ومستقبلها, فإن هذه الشعوب لابد أن تمل وتضيق بل وتتمرد ضد هذا النهج من الحكم السياسي, وهذا ما حصل في إيران عقب إعلان النتائج بفوز الرئيس أحمدي نجاد.
لقد سئم الناس التصريحات العنترية لنجاد خلال فترة حكمه الأولي, وملوا كثرة تباهيه وتحديه المجتمع الدولي, ويتساءل المواطن الإيراني البسيط المهموم بلقمة عيشه, ما الذي استفيده من تحد رئيسي للعالم ؟ ماذا أفعل بتصريحات نجاد (لقد أصبحنا قوة عظمي ونتحدث إلي العالم من منطلق أننا دولة نووية, وسنذيق الأمريكيين الأمرين إذا تعرضوا لنا, وأما إسرائيل فزائلة)؟ صحيح أنه ألهب الناس بخطابه الحماسي وأرضي غرورهم القومي.
ولكن ماذا بعد ذلك؟ يريد المواطن الإيراني أن يعيش متنعما بثروة بلاده مثل جيرانه الخليجيين علي الضفة الأخر, يريد أن يحيي بكرامة, يريد أن يمارس حريته ويعبر عن رأيه دون خوف أو قهر في مستقبل بلاده, يريد أن يأمن علي نفسه وعلي
أولاده.
يتساءل المواطن الإيراني : أين ذهبت شعارات الثورة الإيرانية في تحقيق الحياة الكريمة للشعب بعد (30) سنة من الثورة؟ كانت آمال الجماهير الإيرانية أن تتحول بلادهم إلي جنة علي الأرض فإيران أغني بلد علي وجه الأرض لقد حبا الله إيران وأنعم عليها بكافة الموارد والثروات, وخصها بنعم لا تعد ولا تحصي, الاحتياطي البترولي الإيراني يكفي لمئات السنين, والاحتياطي من الغاز لا نهاية له.
أما الثروة الزراعية والحيوانية والسمكية فحدث ولا حرج, إيران تنتج الكافيار وتصنع السجاد العجمي وهي أرض الخيرات وتتمتع إيران بثروة هائلة من المياه ومن الأنهار التي لا تحصر وتطل إيران علي الخليج والمحيط عبر سواحل متصلة وموانئ عديدة وتحتل موقعا استراتيجيا فذا, وإيران بلد ذو مناخات متنوعة ومناظر طبيعية خلابة وجبال شاهقة ووديان سحيقة إضافة إلي أن إيران ذات حضارة عريقة, وشعب إيران شعب حيوي طموح ومتعلم.
ويشكل السكان في إيران حجما نموذجيا لتحقيق التنمية والنهضة والتقدم ولا يشكل عبئا علي الموارد كما في حالة مصر مثلا كما أن إيران ليست مستهدفة من أحد لا من الجيران ولا من القوي الكبري, لا أحد يطمع في احتلال إيران ولا أحد يخطط لغزو إيران ولا أحد يتدخل في شأن إيران بل إيران هي التي تتدخل بالمال والنفوذ السياسي والديني وبالسلاح في شئون الدول الأخري.
ولكن أنظر بعد (30) سنة من الثورة ومن الحكم باسم الإسلام (حسب نموذج ولاية الفقيه) وبالرغم من كل هذه الموارد الهائلة لم يستطع النظام السياسي في إيران تحقيق دولة الرفاهية والعدالة للشعب الإيراني الذي لا يزال يعيش وضعا بائسا !! بينما دول أخري في جنوب شرق آسيا لا تتمتع بربع ما تملكه إيران حققت طفرات تنموية هائلة وفي مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز (15) سنة !!
من حق المواطن العادي أن يتساءل : أين ذهبت ثروات بلاده ؟ ولماذا هذا الإنفاق الهائل علي التسلح ؟ وماذا تريد إيران بتكديس السلاح ؟ وما الحاجة إلي السلاح النووي الذي يلتهم الموارد؟ ولماذا كتب عليهم أن يدفعوا فواتير مغامرات حزب الله في لبنان وانقلاب حماس في غزة وتمرد الحوثيين في اليمن في الوقت الذي يعاني فيه قطاع كبير من الشباب الإيراني أوضاعا اقتصادية صعبة وبطالة مرتفعة ؟!.
كثيرون يعتقدون أن حصول تلاعب في نتائج الانتخابات هو الدافع للاحتجاجات والمسيرات الشعبية, وأتصور أن مسألة التلاعب – إذا صحت – ماهي إلا ذريعة ظاهرية والصحيح أن الإيرانيين ومعهم النخبة الدينية من كبار آيات الله مستاءون من تدخل المرشد الأعلي وتحيزه المبكر لنجاد لأنهم يرون في منصب المرشد الأعلي النزاهة والتوازن وعدم التحيز كالقاضي الذي يلتزم بقواعد العدل لقد أعلن المرشد الأعلي الذي هو الحاكم الأعلي بين السلطات تأييده المسبق لأحد المرشحين وهذا لا يجوز في أمر, شرطه الأساسي وجود تكافؤ في الفرص بين المرشحين, وإذا عرفنا أن (الباسيج) وهي ميليشيات مسلحة متطوعة يبلغون (13) مليونا ويحق لهم المشاركة في الانتخابات وهم طوع أمر المرشد الأعلي في كل صغيرة وكبيرة, وقد عرفوا مسبقا رغبة أمامهم في فوز نجاد, فكيف نتصور أنهم لا ينقادون له ؟ وأين النزاهة والحياد؟
هناك من يعتقد أن حركة الاحتجاجات تعبير عن ثورة ثقافية ضد ولاية الفقيه ولا أري ذلك صحيحا فأولا المنافسون الخاسرون هم أبناء الثورة الإيرانية ومن داخل مؤسسة الحكم وهم مخلصون وأوفياء لمبادئ الثورة وخطبهم وتصريحاتهم لم تخرج علي مبادئ الدستور الإسلامي الإيراني.
وثانيا هؤلاء عبروا صراحة أنهم يريدون تغييرا إصلاحيا للأوضاع الداخلية وبخاصة الوضع الاقتصادي والوضع الديموقراطي, هم ضد التفسير الشمولي والمتشدد لمبادئ الثورة الإسلامية, يريدون مؤسسات ديمقراطية تحترم إرادة الشعب الإيراني ولكنهم ليسوا ضد ولاية الفقيه ولا ضد حكم رجال الدين يريدون دولة عصرية غير معادية للعالم, لا تصدر أزماتها الداخلية للخارج بهدف إلهاء الناس عن مشاكلهم وبهدف استمرار عقلية الحشد الثوري والنهج الشعاراتي, يريد هؤلاء تفعيل المبادئ الأربعة للثورة وترجمتها سلوكا وتعاونا وعلاقات وهي (الإسلام والعدل والاستقلال والاكتفاء الذاتي) لقد انتقد (موسوي) خطاب خامنئي الأخير وقال : ##إنه يهدد الطابع الجمهوري للجمهورية ويسعي لفرض نظام سياسي جديد##.
وأضاف: ##أن هذا المصير – يقصد التلاعب بالأصوات – سوف يسعد مجموعتين: مجموعة وقفت ضد الإمام الخامنئي ورأت في النظام الإسلامي طغيان الصالحين الذين يريدون سوق الناس قسرا إلي الجنة, والمجموعة الثانية التي تدعي الدفاع عن حقوق الشعب وتري في الاسلام عقبة علي طريق قيام جمهورية## فهو إذن مع النظام الإسلامي الذي يحترم إرادة الشعب الإيراني ولكنه ضد النهج الشعاراتي الذي يريد سوق الجماهير إلي مناطحة الشيطان الأعظم وبحجة الصراع ضد الخارج حيث يجمد الأوضاع الداخلية ويرفع شعار ##لا صوت يعلو صوت المعركة## ويعلق عمليات الإصلاح, تماما كما شقيت الأرض العربية عقودا من السنين, وبدأت من ستينيات القرن الماضي بشعارات الحكم الناصري مرورا بشعارات البحث والماركسية وامتدادا إلي شعارات الإسلاميين (الإسلام هو الحل) لقد كان عبد الناصر خطيبا عظيما آسرا للجماهير من المحيط إلي الخليج, وكانت تخرج هاتفة بحياته ومرددة لشعاراته (الوحدة والحرية والاشتراكية ومقاومة الاستعمار وإزالة إسرائيل من الوجود).
كانت هذه الخطب والشعارات الزاد اليومي للجماهير المتشبعة بها والمنشغلة عن معارك الانتاج والتنمية حتي وقعت الواقعة في 1967م, ورغم الخيبات والإخفاقات والفشل الذريع لمرحلة طويلة ممتدة من عقود الشعارات الجوفاء التي ابتليت بها المجتمعات العربية إلا أن الثورة الإسلامية في إيران لم تستفد من دروسها, وتبنت نفس الأساليب في حشد الجماهير وتعبئتها ضد الأعداء الواهمين الدائمين المتربصين ولكن بشكل أكثر ثورية وبتبديد للثورة أعظم, وها هي النتيجة والمحصلة, بؤس الأوضاع في إيران واحتجاجات الجماهير ومما يؤسف له أن النظام الثوري في إيران وبالرغم من كل الإمكانات والموارد والفرص لم يستطع التوصل إلي صيغة سياسية ملائمة تطلق الطاقات الجماهيرية في معركة البناء والتنمية بدلا من هدر الأموال وتبديدها في صراعات لا يجني الشعب شيئا منها.
يبقي أن نؤكد أن شعب إيران, جار عزيز علينا, واستقرار إيران وأمنه من استقرار وأمن الخليج ولذلك فأي تدخل في شأنه الداخلي أمر مرفوض خليجيا وغير مرحب به حتي من قبل المعارضة في الداخل بل يضرها ويسبب لها الحرج, وكان موقف الرئيس الأمريكي أوباما موقفا ناضجا حين رفض الانسياق لمطالب التدخل وإن كان قدومه إلي المنطقة وخطابه الودي للمسلمين وإشادته بالإسلام عوامل نشطت رياح التغيير في المنطقة وأعطت أملا للجماهير, وكان اختيار الشعب الأمريكي لرئيس محب للإسلام وفخور بعطاء المسلمين في أمريكا هو بداية الزلزال الذي عصف بذرائع ومبررات الشعاراتيين, لقد تساءلت الشعوب وراجعت نفسها, تغيرت أمريكا فلماذا لا نتغير؟ وإلي متي علاقات الكراهية والصدام؟
إن مرحلة أوباما تمثل عامل تقويض لأساس البناء الشعاراتي, وأما خسائر الإسلاميين في الكويت ووصول الكويتيات إلي البرلمان, وتراجع شعبية حزب الله وعون وإخفاقهما في الحصول علي الأغلبية البرلمانية, وانتكاسات حماس الأخيرة, وكذلك احتجاجات الإصلاحيين في إيران ما هي إلا إرهاصات لبداية مرحلة أفول الشعارات في المنطقة لقد ضاقت الجماهير هنا وهناك من تحكم النهج الشعاراتي, يريد الناس أن يعيشوا ويحيوا كسائر شعوب العالم في تواصل وأمن وكرامة من غير شحنهم بأوهام الصراع والتآمر ومخططات الشيطان الأكبر, كيف وقد جاءهم ومد يد المصالحة لهم ؟ !
أستاذ الشريعة بجامعة قطر