[email protected]
تجربة قاسية .. مريرة .. عصفت بكياني .. لكنها علمتني الكثير .. اتجهت مساء السبت إلي العباسية حيث المظاهرات المتجهة من ميدان التحرير إلي مقر المجلس العسكري .. كنت أعلم أن الأمر جد خطير .. استغرق الطريق أكثر من ساعتين, حاولت المرور عبر أكثر من اتجاه لكن عبثا أحاول فكل الطرق مسدودة ..حدثني أحد الأصدقاء ناصحا إياي بالعودة فالأجواء متوترة جدا .. زجاجات مولوتوف .. سنج .. سيوف .. لم أنصت إلي نصيحته فالثورة ما زالت عنيدة في كياني .. تركت التاكسي الذي استقليته أمام مستشفي الدمرداش .. وترجلت حتي اقتربت من جامع النور .. شعرت بأجواء غريبة .. ليست تلك أجواء الثورة ولا هذه وجوه الثوار, سرت بحرص أنتظر في كل خطوة كارثة, تفحصت كل الوجوه ولم أجد ضمنها واحدا أعرفه.
بدأت أمارس عملي كصحفية في تغطية الحدث .. واسترسلت في حوارات مع المارة العائدين من ميدان العباسية قادمين من ناحية جامع النور .. كلما سألت أحدهم: ##أنت من المتظاهرين ؟ يجيب لا##, ثم يبدأ بالسب والقذف في كل من ينتمي للثورة أو لميدان التحرير .. شعرت بالخطر والقلق لأن وجهي كان مألوفا في الميدان من يوم 25 يناير وحتي التنحي عند قصر العروبة وما تلي ذلك من أحداث .. لكنني لم أتخل عن دوري كصحفية أود الوصول إلي الحقيقة أما دوري كثائرة فأدركت أن هذا ليس بمكانه علي الإطلاق وأنا بمفردي ولم أر أحدا من الثوار .. وبدأت أبتعد قليلا بحرص دون أن يشعر أحد أنني أخشي أي اعتداء .. ثم انسحبت خاصة بعدما بدأ البعض السب في الإعلام والصحافة وتحركت في اتجاه شارع رمسيس .. وفجأة اعترض طريقي شابان -بودي جارد- أبرزا لي كارنيهات ##مجمع سيتي ستارز## تعجبت من اقترابهما مني .. لكنني سرت بعيدا عنهما .. سألني أحدهما : أنتي جايه ليه هنا ؟ فأجبته بأنني صحفية .. ولم أتمكن من الدخول للتصوير .. قال عارضا المساعدة : هاحميكي تعالي وصوري وماتخافيش.
دفعتني التركيبة الفضولية للصحفية للمغامرة مرة أخري .. ظنا مني أنهما سيحمياني كما أكدا لي .. سرت حتي وصلت إلي أقرب نقطة علي بعد حوالي 30 مترا من الأسلاك الشائكة التي وضعها الجيش ليفصل المرور عن المتظاهرين .. المشهد يبدو دراميا .. زجاج منثور فوق الطريق بكميات تشهد بأن المعركة لم تكن بسيطة .. مصابون مربوطي الأيدي والأرجل والرؤوس .. أناس تحملق في كل من يمر كأنهم يتربصون بلا تروي ولا حكمة ..
بعد دقائق بدأت التصوير فتجمع حولي بعض الرجال والشباب .. واختفي الشابان اللذان زجا بي إلي الداخل .. أخذ الجميع في الهجوم علي الثوار والثورة فقال أحدهم ## خربتوا البلد## ثم هاجموا الإعلام وبدأوا -باعتبار أنني صحفية – يهاجمونني بعنف ينبيء عن كارثة محتملة .. أدركت الأمر لكن متاخرا.. تنبه أحدهم أنني انتبهت فصرخ بصوت جهوري ##دي من بتوع التحرير## فقلت له: ##أنت ليه مصمم تهيج الناس ضدي أنا هنا بصفتي صحفية وأنقل بأمانة ما أراه##.. فزاد في صراخه دي من بتوع التحرير .. وبدأ يسب ويقذف في.. ومن خلفه عشرات الأشخاص الذين لم تمض دقيقة واحدة حتي صاروا ما يقرب من مائتي شخص.
أصابتني هيستيريا الخوف .. أو تعرفون لماذا تزداد الكائنات المفترسة شراسة عندما تخاف الفريسة .. ؟؟ لأن مادة الأدرنيالين تفرز بكثافة لدي الخائفين فيشتمها المفترس في جسد فريسته .. هذا هو التشبيه الأبلغ للموقف .. ففي اللحظة التي تسلل الخوف فيها إلي قلبي .. بدأ مسلسل كريه في كل تفاصيله لا يمكن أن يتخيله بشر من مجموعة لا أعرف حتي الآن كننها هل هم بلطجية؟؟ أم فلول؟ أم قطيع من الجهال مع مزيج من المسجلين الخطر؟.. تمزقت أوصالي عندما رأيت في قطاع من المصريين ضياع النخوة والشهامة .. وجدتهم مأجورين وحمقي .. مخدوعين ومرتزقة .. مأفونين مغيبي العقل والبصيرة والضمير .. وانهالوا علي ضربا .. سمعت أحدهم يقول: ##دي بتاعة التحرير## وآخر ##دي إسرائيلية##.. وبدأ التهبيش والتلطيش والتنتيش .. حتي السلسلة التي كنت أتقلدها في عنقي مد أحدهم يديه بمنتهي القسوة لينتزعها مني..
شعرت أنني أواجه الموت حقا علي أيدي السفهاء .. وتمنيت لو عاد بي الزمن إلي يوم 28 يناير لأموت هناك شهيدة بدلا من تلك الميتة التي من المؤكد أنهم بعدها سيجعلون مني خائنة وعميلة ويلفقون لي ما لم يصدر عني .. أسرعت في اتجاه الجيش وصرخت ##الحقوني##.. لم ينطق أحدهم أو يحاول التدخل لحمايتي.. ثم بدأ الملتفون حولي يسرقونني فحزمت حقيبتي وسط هيستيريا ##التنتيش##.. وألقيت بها إلي ما بعد الأسلاك الشائكة حتي يتلقفها الجنود.. نجحت في إنقاذ حقيبتي والمحمول والكاميرا .. لكنني لم أفلح في إنقاذ نفسي.. فالأسلاك الشائكة تعوق مرور جسم طفل فكيف لي أن أمر؟؟.. ظللت أصرخ..
والوحوش يلتفون حولي فاحتميت بالرصيف وما من فائدة .. جلست فوقه لأنه ما من مكان يمكنني الهروب إليه.. قلت لهم:
##اقتلوني الآن ولكنني لن أنبطح أرضا##.. التفوا حولي .. ضيقوا الدائرة .. انتفضت .. قفزت من فوق الرصيف .. لا أعلم كيف شققت طريقي محاولة اختراقهم عشرات المرات صارخة بجنون .. في محاولة لتلافي الأيادي والأقدام الضاربة الناهبة الخسيسة .. -وأنا علي بعد أقل من متر من الجيش- .. كنت أشبه بفاقدي البصر ولم تزل البصيرة في ضميري .. ظهر فجأة شاب جذبني من يدي بعنف وزج بي نحو الأسلاك الشائكة في محاولة لإنقاذي بعد أن جاء العميد المسئول عن المكان ليعطي الأوامر بتمريري من بين الأسلاك الشائكة .. ورفضت أن أعطي ظهري لهم وصممت أن أتركهم وأنا في مواجهتهم أري من أين تأتي الضربة القادمة .. فانبطحت علي ظهري ومد العسكر أياديهم يسحبون إياي من بين الأسلاك التي جازت في جسدي بعد أن جاز الرعب الألم في نفسي .. وفيما هم يدخلونني إلي داخل الأسلاك كان البلطجية يجذبونني من شعري إلي خارجها بمنتهي العنف .. نجوت بفضل العميد الذي لا أعلم هل أنا في حل لأذكر اسمه من عدمه لذلك لن أذكره ..لكنني من أعماقي أشكره ..
حالة هياج شديدة سارت في المكان.. اندفعوا خلفنا لا أعرف كيف مروا عبر الأسلاك أم أنهم منظمون ومنهم من هم بالداخل ومن هم بالخارج .. والعجيب أن هناك امرأة كانت تقفز خلفي حاملة ##شومة## وصارخة: ##دي بلطجية من بتوع التحرير## وارتفعت في الهواء عدة عصي أشبه بالشوم محاولة النيل مني .. أدخلتني قوات الجيش إلي أحد العقارات لأحتمي به .. وفتح السكان الطيبون أبوابهم لأحتمي في منزلهم وراحوا يضمدون جراحي في مختلف أنحاء جسدي .. جاء أحد القادة من الجيش وسألني عن مهنتي ومكان سكني ثم اطلع علي بطاقة هويتي وكارنيه نقابة الصحفيين .. ورافقني ومعه قوة من العسكر في سيارة الجيش حتي منزلي ..
بكيت كما لم أبك منذ سنوات .. بكيت كالرضيعة التي انتزعوها من أحضان أمها وما زالت تحاول الارتواء من لبن الحرية .. وتأملت هذا الشعب الذي يجمع ما بين الطيب والشرس والقبيح في كوكتيل غير متجانس والأكثرية من المتنطعين والمرتزقة والعملاء .. تعجبت كيف يكون هناك من يموت لأجل مصر ويكون هناك أيضا من يقتل ويسرق ويلفق ويحرض بكل هذه الفجاجة تحت شعار##من أجل مصر## أيضا.. ما رأيته مساء السبت لم يكن وليد اللحظة ولا الصدفة, إنها أفعال منظمة .. وملقنة لهؤلاء إمعانا في إهانة الثوار وقلب الحقائق وتصدير صورة مغلوطة للشارع البعيد عن تفاصيل الميدان.
نعم.. ##أنا من بتوع التحرير##.. وأفخر .. ##أنا من بتوع التحرير## .. من خلعوا نظام مبارك وكشفوا الفساد وأرادوا تطهير البلاد .. نعم ##أنا من بتوع التحرير##.. الذين لم أواجه في وسطهم طيلة 18 يوم سبقت التنحي سوي الاحترام و الشهامة .. أنا من بتوع التحرير ..الذين يثورون علي الالتفاف علي مكاسب الثورة .. الذين دفعوا ثمن الحرية من دماء ذويهم ودمائهم .. ##أنا من بتوع التحرير##.. الذين طالما صرخوا ##سلمية سلمية## .. ولم تثبت قط أية جريمة عنف ارتكبها أحدهم .. ##أنا من بتوع التحرير## .. الذين رفعوا اسم مصر عاليا في كل مكان .. نعم.. ##إحنا بتوع التحرير##.. فمن أنتم؟