أصبحت الموضة الآن هي الأفلام والمسلسلات التاريخية,لقد راجت هذه البضاعة لا سيما مع ضعف الانتماء الوطني وفساد مقررات التاريخ في مراحل التعليم,ولكن الجديد هو صراع القوي السياسية مع بعضها,من خلال شهر سيوف المسلسلات التاريخية.
ففي العام الماضي أثار مسلسل الملك فاروق ضجة كبري,وكأن إعادة الحديث عن ما قبل يوليو 1952 سيهز شرعية النظام السياسي,وأحس المجتمع أن الملك فاروق سيبعث من جديد من قبره,أو أن أحمد فؤاد الثاني المريض سيعود مطالبا بعرشه,وكانت مهزلة ما بعد المسلسل عشرات من اللقاءات والندوات عن ثورة يوليو وعن عبد الناصر,وهكذا دخلنا في سجال الحرب بالتاريخ.
وكرد فعل سريع خرج لنا هذا العام مسلسل ناصر,إذ كيف تري الأمة العربية في العام الماضي الملك فاروق ولا تري في هذا العام ناصر؟!
كمؤرخ,ادعي الموضوعية,أري أن المسلسل أساء إلي عبد الناصر بشدة,إذ لا يختلف أحد علي زعامة ناصر وعلي عظم إيجابياته,وأيضا فداحة سلبياته,لكنه في الحقيقة كان يستحق مسلسل أكثر رزانة من ذلك,أو دعوني أقول إنه مسلسل بالبلدي مسلوق.
إذ طغت خلفية يسري الجندي المسرحية علي النص المكتوب فخرج بشكل مسرحي ملحمي أقرب إلي طابع الأساطير والملاحم الإغريقية.
فعبد الناصر الطفل هو البطل الإغريقي الذي ينظر بعين ثابتة حادة متطلعة إلي المستقبل,كما يلعب الحلم الدور الرئيسي في المسلسل,إذ تأتي أمه المتوفاة إليه في الحلم دائما عند اتخاذ ناصر القرارات المهمة.ومن المضحك أن أمه تأتي إليه ليلة الثورة لتبشره: إنت بتحب الناس والناس بتحبك مع أن ناصر حتي ليلة الثورة لم يكن معروفا لأحد في مصر,ولكنها النبوءة هذه الحيلة المسرحية التي يلجأ إليها يسري الجندي,وهو لا يدري أن لعبة الأحلام هذه تضر بصورة الزعيم,لأنها تظهره يأخذ قراراته أثناء النوم,بينما في الحقيقة كان عبد الناصر أكبر من ذلك.
كما لعب تتر المسلسل أغنية المقدمة والخاتمة علي نظرية البطل الأسطوري الإغريقي,والحلم المتجسد في ناصر,بينما عبد الناصر وجيله هم أبناء الطبقة الوسطي الصغيرة بأجنحتها المختلفة وتوجيهاتها السياسية المتنوعة,التي ظهرت بشدة بعد الحرب العالمية الثانية,فعبد الناصر ابن جيله وطبقته الاجتماعية ولم يهبط من السماء.
هذا ناهيك عن ضعف الإخراج وهزالة الإنتاج وعدم جودة الصورة بشكل لا يمكن مقارنته سواء بمسلسل الملك فاروق أو فيلم ناصر 56.
إن تصوير المعارك الحربية في حرب فلسطين 1948 كان هزيلا ومضحكا,جنودا تتبادل الكر والفر بشكل مضحك,هذا فضا عن اختيار الممثلين لأدوار أعضاء مجلس قيادة الثورة,إذ تم الاختيار دون احترام للمرحلة العمرية الحقيقية لهؤلاء الأعضاء,إذ كيف يقوم ممثل في الخمسينيات من عمره مثل أحمد عبد الوارث بدور ضابط في بداية الثلاثينيات؟! كان منظر أعضاء مجلس قيادة الثورة مضحكا لعدم تناسبه مع حقائق أعمار الضباط الشبان.
ناهيك عن الأخطاء التاريخية الفادحة التي وقع فيها المسلسل,ولعل أهمها وأخطرها تصوير مسلسل لجمال عبد الناصر برتبة البكباشي أثناء حرب فلسطين,بينما لم يحصل عليها إلا في عام 1951.
هذا فضلا عن عدم المصداقية التاريخية للبيان التاريخي لقيام الثورة الذي أذاعته الإذاعة,إذ تجاهل المسلسل البيان الأصلي,يضاف إلي ذلك أخطاء عديدة في الأسماء,فالصحفي الكبير قبل الثورة أحمد أبو الفتح يصبح بقدرة قادر أحمد أبو الفتوح,فضلا عن التجاهل التاريخي للعديد من الشخصيات الوطنية البارزة,مثل مصطفي النحاس,وأيضا الشخصيات الصحفية مثل مصطفي أمين.
الحق أقول إننا لم ننتج بعد عملا دراميا تاريخيا,إننا بحاجة لورشة عمل قبل كتابة النص بين الكاتب والمؤرخ والمخرج ومصمم الأزياء ومصمم المعارك الحربية,كما حدث في الأعمال التاريخية العالمية الكبري,حتي نخرج بعمل درامي تاريخي محترم,لكن ما نقوم به الآن هو التجارة بالتاريخ دراميا.