شرفت بالعمل ضمن أسرة تحرير ” وطنى ” تحت ريادة صاحب الامتياز انطون سيدهم أحد عشر عاما , تحديدا فى ديسمبر 1984 , و كانت الجريدة تضم نخبة من عمالقة الصحافة المصرية .
و لعلي محظوظاً فقد نهلت من روعة هذا المعلم و الاب و الرائد .. فالصغير مع الكبير كنا نصطف بقاعة الاجتماعات من حوله بالاجتماع الاسبوعى مساء كل اثنين – اليوم التالى لصدور وطنى ” جريدة الاحد الكبرى ” .. و الاخيرة عبارة كانت تتصدر الصفحة الاولى لعدد وطنى اختفت مع تطور الاخراج الصحفى و لم تختف من صدور القراء …
هذا الاجتماع هو محور الذكريات و لا ابالغ .. فالشخصيات الكبيرة و الكاريزمية يشعر الكل معها ان له علاقة خاصة . هكذا كان البابا كيرلس السادس و البابا شنودة الثالث . و قد تباركت لسنين ( منذ بداية التسعينيات ) بكتابة سيرة و ذكريات هذين القديسين مع الناس , فالشخصية الكبيرة تستوعب و تهذب , تستمع و تثقف , تعلم و تسمو , و قل ما شئت من سمات …
الاجتماع يبدأ ( بالدقيقة ) فى الخامسة مساء الاثنين , كان من غير المستحب الحضور متأخرا لدقائق ! اما الموضوع فكان استعراضا مفصلا لعدد الامس , صفحة صفحة , و مادة مادة . لا يكاد يفلت عنوان من ملاحظة و لا مانع من التقاط خطأ مطبعى أو نحوى أو ما شابه …كان الاجتماع الاسبوعى ندوة اعلامية تناقش اخر المستجدات فى مختلف الشئون , و لان الحضور كانوا من ” العيار الصحفى الثقيل ” لذا كنت استمتع بمباراة ثقافية سياسية اقتصادية اجتماعية …” و بلقطة زووم ” كان الجالس بصدارة مائدة الاجتماعات يوزع الاشادات و الانتقادات فى معرض استعراض الاعمال المنشورة فى براعة و ابهار و ثقافة و ايضا رقة .. الاشادة كانت محفزا على مزيد من الانجاز و النقد كذلك كان برقته كالتاج الذى يوضع على الرأس .. و كنت افرح بالحالتين .
ما اذكره اننى تمتعت باشادات عديدة كانت محفزة و بانتقادين :الاول تعليقا على مادة ( منشورة بصفحة حول العالم ) مترجمة من مجلة تايم عن حريق قلعة وندسور و عنوان المادة ” قلب الملكة يحترق ” .. و فى التفاصيل كنت ( من باب ” الفزلكة ” و عدم الدراية و قلة الثقافة ! ) قد كتبت ان أم اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا هى اليزابيث الاولى ! علما بأن النص الاصلى بالمجلة لم يذكر اسم أم الملكة .
و فى وقار قال المعلم بنفس الكلمات المحفورة دون نسيان : يا استاذ نبيل – الموضوع حلو خالص لكن انت وقعت نفسك فى مشكلة لان أم الملكة مش اليزابيث الاولى لكن اليزابيث انجيلا مارجريت باوز ليون .
هكذا جاء النقد دون اهانة أو تجريح أو لوم و كانت مشاعرى ان الاستاذ يضع تاجا فوق الرأس .. كيف ؟ هذا فن القيادة و فن الادارة .. ركز على الجانب المضىئ فى الجهد أولا و فى رقة اشار للخطأ حتى لا يفسد العمل .التعليق الثانى بسبب كلمة باخرة باعتبار ان الباخرة من عصر البخار لكن ممكن نقول سفينة أو مركب .اذكر و يذكر الكل مقدار دقة انطون سيدهم فى الارقام و لا عجب فهو رجل اقتصاد و محاسب لا يشق له غبار .. فمن الامثلة شائعة الخطأ : خمسة اضعاف و الاصح خمسة امثال … و ان نكتب 5 آلاف بدلا من 5000 حتى لا تضيع الاصفار الى يمين الرقم ( فى مرحلة الجمع ) و الفرق هائل ! … و ايضا ” المليار ” بدلا من البليون و الاخيرة يمكن ان تتداخل مع المليون و الفرق واضح ألف مرة و هكذا … المهابة خاصية لصيقة بانطون بك – و هو اللقب الذى كان يحلو لكل العاملين من حوله ان ينادونه – تماما كما ننادى يوسف سيدهم رئيس التحرير بالباشمهندس يوسف – و هو الذى يقسم اهتمامه لنصفين احدهما ” هندسى ” و الاخر ” صحفى ” .
مهابة انطون سيدهم مزيج من الوقار و قوة الشخصية – خلطة نادرة كانت تتلاشى بمجرد ان تبدأ التعامل معه .. لحظات و تجد نفسك امام انسان بسيط بشوش صاف الذهن … و هذا سر مكنون الشخصية .و هذه الايام تتواكب الذكرى المئوية لميلاد انطون سيدهم الارضى ( ولد فى 3 مايو 1915 ) , و الذكرى العشرين لميلاده السمائى ( رحل عن عالمنا الفان 2 مايو 1995 ) .. نعم رحل انطون سيدهم لكن ابدا لم ترحل مسيرته الوطنية و خطه الذى رسمه ل ” وطنى ” .. خط يخوض المعارك الصحفية بوطنية خالصة دون انحراف , يدافع عن الحقوق , يتعفف عن الاثارة , حتى اخبار الجرائم و الحوادث صاحبة ارقام المبيعات تعزف الجريدة عن المضى فيها , المصداقية دائما شعارها و البحث عن الحقيقة مشوارها , فبامتداد تاريخها الصحفى الممتد 57 سنة و الى ” منتهى الاعوام ” ما تزال مواد صحفية عديدة ( حتى الان ) ترجأ للعدد التالى لاجلاء الحقيقة و هو ما اعتاده قارىء الجريدة – الحقيقة و لا غيرها دون رتوش أو انحياز .
مسيرة ” وطنى ” تمضى فى ابهار يقودها يوسف سيدهم و سامية سيدهم و دينا يوسف سيدهم و من حولهم جمهور من المحررين و المحررات زادت اعدادهم و اعباؤهم و زادت معهم افراح آل سيدهم ( هذا ما ادركته مؤخرا ) ذلك ان نجاح الرسالة يكمن فى تسليم الراية للجيل الجديد مهما كانت التبعات …
اقول من حق تارى هانى سيف حفيدة يوسف سيدهم فى رسالتها الافتراضية المتفائلة لجدها ان تتطلع فى استقراء مأمول الى مجتمع العدل و الحقوق .. و لتفرح روحك ايها العظيم رائد ” وطنى ” فالنبتة التى بذرتها هى الان شجرة وارفة تستظل بفروعها و اوراقها الخضراء طيور كثيرة … نعم رحلت و لم ترحل ,