– لماذا لم يخرج من بين العرب فيلسوف مثل فولتير؟ لماذا لم يظهرلديهم ملك تحدى رجال الدين مثل فريدريك الثاني؟
نال الشيخ محمد عبده (1845- 1905) شهرة واسعة باعتباره من ((المُصلحين والمُجدّدين للدين الإسلامى)) وبالغ المُتعلمون المصريون فوضعوه مع (التنويريين) رغم مرجعيته الدينية التى لم يتخلّ عنها، ولذلك فإنّ الثقافة السائدة تتجاهل الحوارالذى دار بينه وبين فرح أنطون (1861- 1922) في المجلة التى أصدرها (مجلة الجامعة) ودارالحوارعام 1902 ومنشورفى كتاب (ابن رشد وفلسفته- مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطون- دارالطليعة- بيروت– ط1 عام1981.
يعتمد محمد عبده على ذكرأنصاف الحقائق، فهوإذْ يُدين الأصولية المسيحية وتكفيرها للفلاسفة يتجنب الكلام عن الأصولية الإسلامية التى ارتكبتْ ذات الإثم، فكتب ((إنّ الإصلاح البروتستنتى لم يكن أكثرتساهلا من الكنيسة الرومانية. وكان أرسطو يـُـلقب بالفيلسوف الخنزير. فكان تعليق أنطون ((قال حجة الإسلام الإمام الغزالى فى أول كتابه (تهافت الفلاسفة) أنّ تكفيرالفلاسفة صدربسبب سماعهم أسامى هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو)) وكان عبده يرى أنه لايجب الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية كما حدث في المسيحية، فردّ أنطون ((كيف يتسنى للسلطة المدنية أنْ تتغلب على السلطة الدينية وتقف بها عند حدها والسلطة الدينية تستمد حكمها من الله.. وليس على الإنسان أنْ يهتم بدين أخيه الإنسان أيًا كان، لأنّ هذا لايعنيه. وأثارعبده موضوع (التسامح والتساهل) فكتب أنطون إنّ ((السلطة الدينية لاتقدرعلى التسامح، لأنّ غرض هذه السلطة مُـناقض لغرض التسامح على خط مستقيم، فهى تعتقد أنّ الحقيقة فى يدها. والمسلمون يُسمون جاحدى الأديان (زنادقة) يجب قتلهم حتى إنّ ابن رشد أوجبه. والمسيحيون يُسمون الجاحدين (كفرة) يجب استئصالهم.
ولأسباب الفصل بين السلطتيْن المدنية والدينية خمسة أمور:
الأول: إطلاق الفكرالإنسانى من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية. وفى حين أنّ العلم لايزال طفلا رضيعًا ولايدّعى امتلاكه للحقيقة المطلقة، فإنّ الأديان على نقيض ذلك، فالحقيقة عندها مطلقة ولاحقيقة بعد حقيقتها.
الثانى: الرغبة فى المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة بغض النظرعن مذاهبهم ومعتقداتهم ليكونوا أمة واحدة. ولاسبيل إلى ذلك إلاّبهدم الأسواروالحواجزالموضوعة بينهم. وأنْ تحكمهم سلطة ليست تابعة لمذهب من مذاهبهم.
الثالث: أنه ليس من شأن السلطة الدينية التدخل في الأمورالدنيوية. لأنّ الأديان شـُـرّعتْ لتدبيرالآخرة لا لتدبير الدنيا. ومن ذا الذى يعتقد اليوم أنّ الأحوال التى كانت فى زمن نشأة الأديان تنطبق على أحوال هذا العصرالتى تتغيرمن قرن إلى قرن، فهل يصح أنْ يكون الحاضرأسيرالماضى؟
الرابع: ضعف الأمة واستمرارالضعف فيها طالما جمعتْ بين السلطتيْن المدنية والدينية.
الخامس: استحالة الوحدة الدينية نظرًا لاختلاف الشعوب فى الأديان. والحروب التى يمكن أنْ تقوم متسترة بغطاء دينى. والتنوع لابد منه بما فى ذلك المعتقدات. فالمسيحية تشعّبتْ إلى أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت. وتشعّب الإسلام إلى سنة وشيعة إلخ وهذه المذاهب كلها (مسيحية وإسلامية) إنما تشعّبتْ لاختلاف أفهام الناس. فكيف يمكن توحيد هذه المذاهب وإخضاعها إلى رئاسة واحدة؟ إنّ البشريلتمسون الطريق (للوحدة) منذ نشأة الأديان إلى الآن دون أنْ يجدوها. وكانوا من قبل يرون أنّ هذه الطريق هى (القوة) لذلك قام الكاثوليك ضد البروتستانت وسفكوا دماءهم فى مذبحة سان برتلماى كما ذكرالأستاذ (محمد عبده) ولذلك أيضًا أمرلويس الرابع بخروج البروتستانت من بلاده إذا كانوا لايعودون إلى الكنيسة الكاثوليكية.
فى ضوء ماسبق فإنّ أنصارالعلم يوافقون الأستاذ عبده فى تنديده بديوان التفتيش ورؤساء الكنيسة الذين قاوموا العلم فى أوروبا ووافقوا على قتل العلماء. ولكن لوكان فضيلته يومئذ فى أوروبا فهل كان سيقف مع العلم أم مع رجال الدين؟
إنّ مذبحة سان برتلماى التى ذكرها الأستاذ عبده التى ارتكبتها الكنيسة لاستئصال (الزنادقة) فى المسيحية، شبيهة بالمذبحة التى تمّتْ للشيعة فى إفريقيا سنة 403 هـ ورواها ابن الأثيرفى الجزء التاسع ص 102فكتب ((فى هذه السنة قــُـتل من الشيعة خلق كثيروأحرقوا بالنارونـُهبتْ ديارهم وقـُـتلوا فى جميع أفريقيا. واجتمع جماعة منهم أمام قصرالمنصورقرب القيروان فحاصرهم العامة وضيّـقوا عليهم حتى اشتد عليهم الجوع فصاروا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قــُـتلوا عن آخرهم. ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقـُـتلوا كلهم. وذكركثيرون من الشعراء هذه الحادثة. منهم الفــَـرِح المسرور، ومنهم الباكى الحزين))
ألحّ أنطون على تعميق معنى أنّ ((مدنيات الأمم لاتتوقف على الدين بل على العلم وأنّ الأمم (الوثنية) كاليابان إذا سلكتْ سبيل العلم والنواميس الطبيعية ارتقتْ مدنيتها على كل مدنية حتى مدنية الذين يعملون بقواعد الإنجيل والقرآن حرفــًا ومعنى دون أنْ يشتغلوا بالعلم، لأنّ الدين شىء والعلم شىء آخر. فكيف إذن يصح القول أنّ الإنسانية ستعود كلها إلى القرآن فى المستقبل كما يقول الأستاذ؟ وأنها ستعود كلها إلى الإنجيل كما يقول رؤساء الدين المسيحى؟ كلا ثم كلا. إنّ الإنسانية طـُـبعتْ على التنوع والاختلاف. ولابد من هذا التباين فى المعتقدات.
((وهل يحسب الأستاذ أنّ الثورة الفرنسية حدثتْ من نفسها. كلا. لأنه يعلم أنّ كتابات فولتيروروسوهى التى أضرمتْ نارها. فهل كان يمكن أنْ يقوم عند العرب رجل كفولتير؟ وهل ظهرلدى العرب ملك عظيم فى القرن 13م مثل فريدريك الثانى امبراطورألمانيا؟ الذى كان محبًا للفلسفة كارهـًا لرجال الدين لأنهم يُقاومون مشروعاته الإصلاحية. وكان السند الكبيرلمترجمى ابن رشد فى أوروبا. ولم يمنعه ذلك من الاشتراك فى الحملة الصليبية السادسة على المشرق. وهذا دليل على أنّ تلك الحروب كانت سياسية ولم يكن لها من الدين إلاّظاهره. وعندما وصل إلى أورشليم دخل إلى كنيسة القبرالمقدس ليهزأ بالديانة المسيحية. لذا هاجمه أعداؤه من الأكليروس المسيحى ونقلوا عنه: إنّ العالم مخدوع بالكهنوت الدينى اليهودى/المسيحى/ الإسلامى.