عاشت مصر حتى أوائل القرن 19تحت سيطرة أبشع أشكال الاستعمار الاستيطانى الذى فرض التخلف الثقافى والتنموى ، ورغم ذلك فإنه بعد أقل من مائة عام ، نفضت مصر غبار العصور الوسطى ، فإذا كان التعليم طوال عدة قرون قاصرًا على الكتاتيب ، فإنّمعاصرًا لفترة المخاض هو أ. محمد لطفى جمعة يعترف فى مذكراته بأنه أتقن اللغة الإنجليزية منذ أنْ كان فى السنة الرابعة الإبتدائية. وأنّ التدريس بالإنجليزية كان يشمل الكيميا والرياضيات والطبيعة والتاريخ والجغرافيا وكتب ((أشهد أنّ مجموعة الأساتذة فى مدرسة إبتدائية ريفية فى أواخر القرن 19 كانت أرقى من مجموعة أساتذة فى مدرسة عليا أو جامعة فى أواسط القرن العشرين))
وكتب لويس عوض أنه عندما كان فى مدرسة المنيا الثانوية ((لم تكن هناك دروس دين ، وإنما حلــّـتْ محلها مادة (الأخلاق) ومادة التربية الوطنية ، كنا نتعلــّم منها مبادىء المساواة فى الحقوق والواجبات )) وعن الكتب المقررة على الطلبة فى الفترة من 26- 1930 ذكر أنه ((درس فى السنتين الأولى والثانية الثانوية كتاب شفيق غربال (تاريخ مصر القديمة) وفى إحدى السنوات وزّعتْ الوزارة على الطلبة كتاب (أميل) لروسو وكتاب (قادة الفكر) لطه حسين))
وكتبت د. سهير القلماوى أنه ((عندما تولى طه حسين وزارة المعارف عام 1950 كان أهم أعماله توحيد المرحلة الأولى فى التعليم ، فلم يعد هناك تعليم دينى متخلف وآخر مدنى ، وإنما أصبح التعليم واحدًا ، يضمن الوحدة الفكرية بين مواطنى الوطن الواحد)) وطه حسين عندما كان عميدًا لكلية الآداب رسّخ فى الطلبة ملكة (النقد) وهو المعنى الذى عبّرعنه د. عبدالحميد العبادى الذى كتب عن نظام التعليم الذى يتمناه ((عاوز أبث فى الطلبة روح طه . روح البحث والجدل و(الخناق العلمى) كما يقول أستاذنا لطفى السيد)) وطه حسين يتواضع إلى درجة أنْ يعرض مقالا بعنوان (كيف نحارب الطائفية) بقلم عبداللطيف شرارة نشره فى مجلة (الأديب) قال فيه ((إنّ التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة عقيمة. قام بها ابن سينا منذ قرون فانتهى به الأمر إلى إعتباره زنديقــًا من قِبل رجال الدين. قصير النظر من قِبل الفلاسفة. كما أنّ التوفيق بين دين ودين انتهى على يد كثيرين فى أوروبا وفى الشرق إلى مآسٍ ردّد التاريخ صداها))
ودافع لطفى السيد عن استقلال القضاء وحرية الصحافة والكتابة وتأليف الأحزاب . وعن التعليم كتب ((إنّ الهدف من التعليم الجامعى أساسه حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال ، لا الحفظ والتصديق لكل ما يُـقال)) وفى رده على دعاة أنّ (الدين جنسية) كتب ((الإسلام ليس لمسلم بوطن. فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى))
ويدعو إسماعيل أدهم إلى أنْ ((تحيا مصر حياة فكرية صحيحة وتــُـنشىء لنفسها ثقافة تــُـقيم عليها أساس دولتها. ولابد من برنامج للتعليم يقوم على أساس علمانى لجميع طبقات الشعب)) وإسماعيل أدهم رغم أصوله التركية ، كان ممتلئـًا بروح مصرية جعلتهينحاز للغة العلم ، فكتب يناشد شعبنا أنْ يترك اللغة العربية ، لأنّ لنا لغة قومية ، وقال (( إننى منذ حططتُ رحالى فى مصر لدراسة حياتها الاجتماعية والأدبية وقفتُ على ثروة جديدة هى (اللغة المصرية) ومن الخطأ القول أنها عامية العربية. فهذه هى لغتكم وهى أولى برعايتكم من لغة البدو الذين لا رابط بينكم وبينهم ولا صلة)) وعن أسباب التخلف فى دول الشرق والتقدم فى دول الغرب لخّصها فى جملة واحدة ((إنّ فى الشرق استسلامًا محضًا للغيب . وفى الغرب نضالا محضًا مع قوى الغيب))
أما قاسم أمين فيرى ضرورة أنْ ((نربى أولادنا على أنْ يعرفوا شئون المدنية الغربية. وأنه من المستحيل أنْ يتم إصلاح ما فى أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية الحديثة. ولهذا لا نتردد فى أنْ نـُصرّح بأنّ القول بأننا أرقى من الغربيين هو من قبيل ما تنشده الأمهات من الغناء لتنويم الأطفال)) كلام قاسم أمين أعجب فرح أنطون فكتب (( مما تقدم يتضح أنّ مدنيات الأمم لا تتوقف على الدين بل على العلم. وأنّ الأمم (الوثنية) كاليابان إذا سلكتْ سبيل العلم والنواميس الطبيعية ، ارتقتْ مدنيتها على كل مدنية. حتى مدنية الذين يعملون بقواعد الإنجيل والقرآن حرفـًا ومعنى دون أنْ يشتغلوا بالعلم. لأنّالدين شىء والدنيا شىء (آخر) وكيف يقال إنّ الإنسانية كلها ستعود إلى القرآن فى المستقبل كما يقول الأستاذ محمد عبده. وأنها ستعود كلها إلى الإنجيل كما يقول رؤساء الدين المسيحى ؟ كلا ثم كلا. إنّ الإنسانية طــُبعتْ على التنوع والاختلاف. ولابد من هذا التباين فى المعتقدات))
ويعرض إسماعيل مظهر أربعة أنواع من المذهبية تؤدى إلى التعصب. ودعا إلى تحطيم المذهبيات إذا كنا نسعى إلى الارتقاء الحقيقى ليكون الفكر حرًا. وأنّ الارتقاء والمذهبية عدوان. ولن يكون ارتقاء مع مذهبية . وتختفى المذهبية مع الارتقاء. إذن وجب علينا أنْ نضحى بأحدهما ليخلص لنا الآخر. ولا جرم أننا نضحى بالمذهبية فى سبيل الارتقاء نحو الحضارة الحديثة .
وتــُشارك المرأة فى زلزلة ثوابت الموروث. فيجد الباحث أسماء منيرة ثابت ، درية شفيق ، هدى شعراوى وزميلاتها فى لجنة السيدات بحزب الوفد اللائى أجمعنَ على أنْ يكون الطلاق أمام المحاكم المدنية. وإلغاء تعدد الزوجات إلاّ للضرورة كأنْ تكون الزوجة عقيمًا. أما سعاد الرملى فقد شبّهتْ رجال الدين بالفاشيين الذين ينظرون إلى المرأة نظرتهم إلى تحفة أو متاع لأمزجتهم . فى هذا المناخ الذى كانت مصر فيه يتخلــّـق فى أحشائها جنين دولة عظمى فى الشرق الأوسط ، يعثر الباحث على أول فتاة مصرية تقود طائرة ( لطيفة النادى) عام 1932 وأول فتاة مصرية ارتدتْ روب المحاماة (نعيمة الأيوبى) ويكون الاحتفال بخريجات الطب فى نفس العام .
ورغم الاحتلال والأزهر والقصر والإخوان المسلمين ، يجد الباحث مادة خصبة فى الصحف والمجلات الصادرة فى تلك الفترة ، تؤكد على تنامى الفكر العلمانى ، مثل مجلة الجامعة ، التطور، المجلة الجديدة ، العصور، الحديث ، الجريدة ، السياسة ، الفجر الجديد ، الكاتب المصرى إلخ. شكــّـلتْ هذه الدوريات (بخلاف الكتب) تيارًا تنويريًا ، ضمّ عددًا كبيرًا من الكــُتاب المؤمنين بمبادىء العلمانية. وكان المُنطلق الرئيسى لأفكارهم أنّ ((الدين شىء والسياسة شىء آخر)) ولايجوز الخلط بينهما. لذلك فإنه لم تكن مصادفة أنه فى ظل هذا المناخ الثقافى أنْ يصدر فى عام 1946 كتاب (الإخوان المسلمون فى الميزان) تأليف عبدالرحمن الناصر الذى نشره باسم مستعار هو محمد حسن أحمد ، وصف فيه الإخوان المسلمين بالفاشيين. وبعد أنْ عرّف الفاشية ، لخـّصها فى تسعة مظاهر ، ثم طبّقها على الإخوان. وفى عام 1950 يُصدر خالد محمد خالد كتابه (من هنا نبدأ) الذى انتقد فيه الدولة الدينية ودافع عن الدولة العصرية.
أود أنْ أحيط القارىء المهتم أنّ ما تقدم مجرد هوامش على إرهاصات العلمانية فى مصر (مستخلصة من عدة مجلدات) قبل أنْ يأتى البكباشية فى شهر يوليو 52 ليقطعوا مسيرة الحداثة. وعندما أنزلوا معاولهم على الفترة السابقة على عهدهم ، أجهضوا تجربة الليبرالية المصرية ، وأجهضوا الجنين المُـتكون فى أحشاء مصر ، الجنين الذى كان يُنبىء بمصر دولة عظمى فى الشرق الأوسط ، وبالتالى (فى أقل تقدير) أجهضوا أية محاولة للتقدم . وعن الدور التنويرى للعلمانيين المصريين كتبتْ د. لطيفة الزيات ((وأنا أشيّع جنازة طه حسين ، شعرتُ أنى أشيع عصرًا لا رجلا . عصر العلمانيين الذين جرؤوا على مساءلة كل شىء . عصر المفكرين الذين عاشوا مايقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة على إرادة كل ألوان القهر))