النجاح حلم يراود الإنسان عبر الزمان، وهدف منشود يسعي إلى تحقيقه، والإنسان السوي لا يرغب في النجاح فحسب بل ومواصلة النجاح في مجالات الحياة المتعددة الشخصية والأسرية والعلمية والعملية والإجتماعية والمادية وكذلك في كل مراحل حياته العمرية.
فمَنْ يختبر مذاق النجاح يتوق إلى إحراز نجاحات أخرى، فالنجاح كما يقال رحلة لا مرحلة، وهي رحلة لا محطة فيها، إنه ليس هدفاً إنما درجة في سلم نرتقيه.
النجاح في حقيقته بداية وليس نهاية، فليس هناك محطة وصول للنجاح نستطيع أن نقول عندها إننا وصلنا إلى آخر محطة.
فصدق مَنْ قال: إن النجاح الذي يعقب النجاح الأول يدفع الشخص لإدمان النجاح.
هذا ولابد أن نضع في إعتبارنا أن للنجاح ثمنه وضريبته ولابد لمَنْ يبتغي ويرنو للحياة الناجحة أن يكون على إستعداد لدفع الضريبة والثمن عن طيب خاطر وبكل سرور.
في هذا المقال وما يليه في الأعداد القادمة سنرى الأسرار التي ثقف وراء كل ناجح ومتميز وهي كثيرة جداً أذكر منها الآتي:
سابعاً : الأمانة سر النجاح والتقدم
إن الغش هو آفة النجاح، وسر الفشل الذريع … أي نعم! قد ينجح الغشاش في وقت معين أو في صفقة معينة، وقد يثير هذا الأمر مشاعر البعض ويجعلهم يتذمرون ويشعرون بالغيرة من نجاحه، كما عبر إرميا في القديم قائلاً: “لِمَاذَا تَنْجَحُ طَرِيقُ الأَشْرَارِ؟ ” (ار12: 1) وصرخ حبقوق معاتباً الرب بقوله:” لِمَ تَنْظُرُ إِلَى النَّاهِبِينَ، وَتَصْمُتُ ” (حب1: 13) لكن الكتاب يعلمنا ويحذرنا قائلاً : في (مز37: 1- 4) ” لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ، وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ الإِثْمِ،فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعًا يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ الْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ. اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ. اسْكُنِ الأَرْضَ وَارْعَ الأَمَانَةَ. وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ”.
فإذا تجربت بأن تغار من نجاح الأشرار، فلتضع هذه الغيرة في حجمها واستمع إلي الحكيم وهو يقول:” لاَ يَحْسِدَنَّ قَلْبُكَ الْخَاطِئِينَ، بَلْ كُنْ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ الْيَوْمَ كُلَّهُ”(أم23: 17).ويقول :” لاَ تَحْسِدْ أَهْلَ الشَّرِّ، وَلاَ تَشْتَهِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ،”(أم24: 1).
نعم! الإنسان الغير أمين قد ينجح ولكن إلي حين فسرعان ما يظهر الحق وينكشف أمره وتكون خاتمته مأساوية، وهذا ما سجله آساف في مزمور73 ففي البداية نراه يقول:” أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي.لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ. لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَّاسِ، وَمَعَ الْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ”(مز73: 2- 5). ولكن في النهاية حينما دخل مقادس الله وإنتبه إلي آخرتهم رأي الأمور في منظورها الصحيح فسطر قائلاً: ” حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى الْبَوَارِ.كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! اضْمَحَلُّوا، فَنُوا مِنَ الدَّوَاهِي”(مز73: 18، 19).
وهذا ما حدث أيضاً مع أيوب فلقد قال يوماً:” لِمَاذَا تَحْيَا الأَشْرَارُ وَيَشِيخُونَ، نَعَمْ وَيَتَجَبَّرُونَ قُوَّةً؟ لكنه عاد وقال:” يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ. فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ …. “(ايوب21: 13).
هذا ومن ناحية أخرى فالحقيقة التي لا شك فيها هي أن الإنسان لا يمكن أن يستمتع بمذاق النجاح إلا إذا كان نجاحه ثمرة كفاحه، أما الذي ينجح عن طريق الغش والكذب والمكر والدهاء والخداع يصاب بالشعور بالذنب ويفقد الثقة في نفسه، ويحس بعدم الشفافية والمصداقية، ويشعر بعدم إحترام وتقدير الناس له، وأكثر من هذا يحتقر نفسه.
سطر الوحي المقدس في مثل الوزنات (مت25: 29) وفي مثل الأمناء (لو19: 26) حكمة خالدة وهي: “لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ .” القارئ السطحي لهذه الآية يتساءل في حيرة: كيف يعطي السيد أكثر لمَنْ له؟! وكيف يأخذ الذي عند مَنْ ليس له؟ أليس في هذا ظلم؟ ألم يكن الأصح أن يأخذ ممن له ويعطي لمَنْ ليس له؟ ولكن عندما ندقق النظر في الآية ونقوم بقراءتها قراءة متأنية نجد أن معناها كالآتي: ” أن كل مَنْ له [أمانة] يُعطي ويزداد، ومَنْ ليس له (أمانة) فالذي عنده يؤخذ منه.
فالأمانة في الأمور الصغيرة تجهزنا وتؤهلنا للقيام بالأمور الكبيرة، وهذا ما نراه في مثل الأمناء (لو19: 12- 27) عندما ” َجَاءَ الأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ! لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدْنٍ. ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لِهذَا أَيْضًا: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدْنٍ”.(لو19: 16- 19).
نعم! الأمانة أهم صفة في العمل فنرى في (مت24: 45) في مثل العبد الأمين” يسطر الوحي قائلاً: فَمَنْ هُوَ الْعَبْدُ الأَمِينُالْحَكِيمُ الَّذِي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ فِي حِينِهِ؟”نجد أن صفة الأمانة تأتي في مركز الصدارة… تأتي قبل الحكمة.
وفي (مزمور101: 6) نقرأ ” عَيْنَايَ عَلَى أُمَنَاءِ الأَرْضِ لِكَيْ أُجْلِسَهُمْ مَعِي. السَّالِكُ طَرِيقًا كَامِلاً هُوَ يَخْدِمُنِي”. في مرات البعض يأخذ هذه الآية ليدلل ويبرهن بها على عناية الرب بالأمناء وكيف أن عين الرب بإستمرار عليهم يحفظهم ويضمنهم، ومع أن هذه حقيقة لا شك فيها، إلا أن الدارس لهذه الآية في قرينتها يجد أن داود الملك كان يحب الأمناء الكاملين وكان يبحث عنهم دائماً ليكونوا أفراد حاشيته ومستشاريه والمقربين منه والعاملين معه والمسئولين عن المراكز الهامة والحساسة في مملكته.
والرسول بولس في وصيته لتيموثاوس يقول في (2تي2: 2) ” وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا.”
هذا وتعلمنا كلمة الله أن الأمانة يجب أن تكون إلي المنتهي: يسطر الوحي في (رؤ2: 10ب) ” كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ ” وأعتقد أن معنى” كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ ” أي كن أميناً في كل شيء في القليل كما في الكثير … كن أمنياً مدى الحياة … فالأمانة قيمة رائعة لا تتجزأ …ولا شك أن المكافأة للأمين مؤكدة فمكتوب كن أميناً إلى الموت” فسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ”.
ثامناً : لتكن حياتك أفعال وليست ردود أفعال
إن الإنسان الذي يبتغي النجاح لا يجب أن تكون حياته مجرد ردود أفعال، وإنما يحب أن تكون حياته فعالة وفاعلة، فشتان الفرق بين أن تكون شاهداً على الأحداث وأن تكون صانعاً للأحداث، فلقد خلق الله الإنسان وينتظر منه الكثير من الخلق والإبداع، فالإنسان لم يأت إلى العالم بالصدفة أو عشوائياً وإنما الإنسان صناعة الله، نفخ فيه من روحه وجعله تاجاً للخليقة ونائباً له على الأرض، إنه يشتاق أن يري نفسه في الإنسان، وأن يكون الإنسان صورته الصادقة التي تعكس مجده وعظمته.
يسطر الوحي المقدس في (تك2: 15) ” وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَوَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا.”
نعم! عندما خلق الله الإنسان وجعله تاجاً للخليقة وسيداً عليها … خلقه لإدارة العالم ، وأوكله على كل الخليقة .
وهنا نرى أن العمل ليس وليد السقوط ، ولم يكن لعنة وعقاب من الله على الخطية ، فقبل الخطية طلب الله من الإنسان أن يعمل فنقرأ في( تك1: 27 ، 28 )” فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».
لقد جعل الله الإنسان نائباً عنه ، وسلم له الكون وسلطه على كل الخليقة فالعمل هو تحقيق لمشيئة الله .
– فالعمل ليس عيباُ أو خطية ، فلو كان العمل خطية ما كنا نقرأ عن ذاك الذي قيل عنه ” أنه لم يعرف خطية، أنه قضى معظم حياته يعمل نجاراً (مر6: 2) وقال “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ” (يو5: 17).
– والرسول بولس كان يصنع الخيام بيديه (أع18: 3) وكان يفخر بذلك كما جاء في (أع20: 34) “أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ”. ، “وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا “.(1كو4: 12).
– وإن كانت الوصايا العشر تنص على راحة السبت فذلك لأنه يأتي بعد أيام عمل (خروج20: 8و 9) “اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ”.
لذلك الكتاب يدين الكسل والبطالة، فالكسول ليس له ما يأكل (أم13: 4) “نَفْسُ الْكَسْلاَنِ تَشْتَهِي وَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَنَفْسُ الْمُجْتَهِدِينَ تَسْمَنُ”. والكسل يقود إلى الحاجة والفقر .
والرسول بولس يقول بوضوح:” فَإِنَّنَا أَيْضًا حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ، أَوْصَيْنَاكُمْ بِهذَا: «أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا». (2تس3: 10).
نعم! إن كل إكتشاف علمي جديد، وكل إبداع وإبتكار تكنولوﭼي جديد، وكل لوحة فنية بديعة الجمال أبدعتها يد فنان، وكل قصيدة شعر جميلة، وكل لحن موسيقي رقيق، وكل استثمار لأي موهبة في حياة الإنسان هي تمجيد وتعظيم للخالق العظيم، وخطوة للأمام نحو إتمام مقاصده وتحقيق مشيئته، فإرادة الله للعالم هي التطور والتقدم والسعادة والرفاهية.
لمتابعة أسرار التميز السابقة: