لم يكن بإمكان الرجال الذين قصفوا قرية فيصل محمد علي أن يكونوا أشد لفتا للأنظار. يقول أستاذ يبلغ من العمر 54 سنة، قاصدا بكلامه سترات أفراد من السكان المحليين المجندين لمقاتلة عناصر تنظيم القاعدة: “كانوا كلهم يرتدون ستراتهم البرتقالية”. لقد برع المقاتلون المدعومون من الولايات المتحدة في مطاردة الإرهابيين في منطقة عرب جبور، الواقعة جنوب بغداد والتي تشتهر بأعمال العنف فيها. لكن علي وغيره يقولون إنه، بعد أن تسببت عبوة ناسفة موضوعة على جانب الطريق بمقتل اثنين من زملائهم في شهر أكتوبر، أقدم المسلحون بكل برودة أعصاب على قتل خمسة رجال ينتمون إلى عشيرة منافسة، وعلى إضرام النيران في عدد من المنازل. يقول الأمريكيون إن الضحايا قضوا خلال معركة بالأسلحة النارية، لكنهم يقرون بأن عناصر المليشيا هاجموا في بعض الأحيان قبائل منافسة لهم. هذا مشهد مألوف في العراق. إلا أن كل الأطراف، في هذه الحالة، هم من المذهب السني.
غالبا ما يجري تصوير عملية المصالحة في العراق على أنها مسألة التقريب بين الشيعة والسنة. إلا أن المجتمع السني يعاني انقسامات عميقة أيضا» بين مجندي القبائل الجدد والسياسيين القدامى، وبين المنتمين إلى حزب البعث والمناهضين له، وبين الأصوليين الذين يرتادون المساجد ومحتسي الخمرة العلمانيين. يحذر القادة الشيعة من أنه لا يمكن التوقع منهم أن يعثروا على أرضية مشتركة مع السنة الذين يعجزون عن العثور عليها فيما بينهم. يقول سعد يوسف المطلبي، أحد مستشاري القيادة الشيعية: “لقد طلبنا إليهم أن يوحدوا جبهتهم ويكونوا شريكا كاملا في عملية الحوار والمصالحة، لكننا عاجزون عن الحصول على شريك فعلي”.
من دواعي السخرية أن يسهم النجاح في صب الزيت على نار الخلافات الداخلية. إن المليشيات التابعة لبرنامج أمريكا المسمى “مواطنون محليون مهتمون” أصبحت تضم اليوم أكثر من 65 ألف مقاتل من ذوي السترات البرتقالية، والكثير من هؤلاء هم من المتمردين السابقين. إنهم ينسبون عن حق إلى أنفسهم الفضل في قمع أعمال العنف في أرجاء العراق، وهم يطالبون بمن يسمع صوتهم. يقول الكولونيل مارتن ستانتون، أحد منسقي المجموعات في الجيش الأمريكي: “يقولون «لقد توقفنا عن العراك. لقد اجتزنا نصف الطريق. نريد المشاركة في… الحكومة»”. لكن الحكومة تضم أصلا أشخاصا من السنة، مثل الحزب الإسلامي العراقي الذي يتزعمه منفيون عارضوا نظام صدام وكانوا من أوائل المنضمين إلى النظام السياسي الذي أوجدته الولايات المتحدة. لقد اعتاد هؤلاء التحدث باسم سنة العراق، وهم يسيطرون على الحكومات المحلية (والأهم من ذلك، على ميزانياتها المالية) في المناطق التي يهيمن عليها السنة، مثل محافظة الأنبار.
إن الضغوط بين الحرس القديم والحرس الجديد تأخذ أقسى أشكالها في عقر دار السنة، أي محافظة الأنبار. لقد جرى خلال الصيف توسيع مجلس محافظة الأنبار لمنح المتمردين السابقين نحو خُمس عدد مقاعده. إلا أن ذلك لم يكن من شأنه إلا توفير ساحة جديدة للطرفين ليتجادلا فيها. وفي الشهر الماضي، خلال مؤتمر أقيم لمناقشة كيفية إنفاق أموال الأشغـــال العامة في الأنبار، ثارت حفيظة أفراد القبائل السنة واتهموا خصومهم باحتكار المشاريع، ثم انسحبوا من المجلس. يقول أحمد أبو ريشة، أبرز قادة القبائل: “نحن نطالب بحصتنا الخاصة”. وهو يهدد اليوم بتنظيم تظاهرات حاشدة تجبر على تأسيس مجلس جديد.
في حي العامرية ببغداد، وهي معقل آخر للسنة، أعاد الحزب الإسلامي لتوه طلاء مكتبه المحلي وافتتاحه بعد أن كان تنظيم القاعدة قد فجره سابقا. إنه مزدان باللافتات والأعلام، لكن غرفه الداخلية بائسة مهجورة، إذ لم يوقع مسئولو الحزب داخلها إلا على 65 طلب انتساب فقط في هذا الحي الذي يقطنه 25 ألف نسمة. يقول الناشط في الحزب مقداد العاني: “نحن جزء من العملية السياسية، ولم نتوقف يوما عن التعامل مع الأمريكيين. لكن الآخرين يعتبروننا خونة”. تقع العامرية اليوم تحت سيطرة قائد المليشيا أبو عبد ومسلحيه المدعومين من الأمريكيين. عندما زارت نيوزويك أبو عبد الأسبوع الماضي، كان محاطا بحراس معتدين بأنفسهم يضعون القفازات والنظارات وواقيات الركب السود نفسها التي يضعها عناصر حفظ الأمن الأجانب. لقد سخر من الحزب الإسلامي بسبب “فراره” من تنظيم القاعدة، وهو يتهمه بمحاولة نسب الفضل إليه في تكلل رجاله بالنجاح في ساحة المعركة. على غرار الكثير من العراقيين، لا يريد التعامل مع المجموعة الحالية من الأحزاب السياسية. ويقول: “من المبكر أن نقول” من الذي ينبغي أن يمثل السنة في الحكومة.
إن رجال القبائل والسياسيين يتجادلون على الأقل في شأن التمثيل السياسي، بدلا من أن يتراشقوا بالرصاص كما يفعل سنة عرب جبور. إلا أن ذلك الوضع قد يتغير في ظل غياب أي تقدم على الصعيد السياسي. فالسياسيون السنة يلتزمون الحذر حيال المساومة على مسائل مثل إطلاق سراح المسجونين السنة، ومنح العفو للأعضاء السابقين في حزب البعث، وذلك خوفا من أن ينعتهم خصومهم السنة بالغدارين والخونة. إن القادة الشيعة لا يتورعون عن تأليب جهة سنية على جهة أخرى» ففي الأسبوع الماضي، حاول رئيس الوزراء نوري المالكي أن يعين أحد الموالين له من قبائل الأنبار في منصب وزاري كان قد حُدد في السابق لأحد المنتمين إلى الأحزاب السنية السائدة. يقول نائب الرئيس السني طارق الهاشمي: “الجميع يراهنون على العنف سبيلا لحل كل المشاكل وهذه السيكولوجية يجب أن تتغير”. إن آخر ما يحتاج إليه العراق هو حرب أهلية أخرى.
بمشاركة سيلفيا سبرينج في عرب جبور