شاع استخدام مصطلحى “الثورات العربية”، “الربيع العربى” بشكل كبير، وبدا هذا الاستخدام أمرا طبيعيا من قبل كل القوى التى تسعى لبناء مشروعيتها إنطلاقا من هذه “الثورات”. ولكن حتى أولئك الذين لا يرون فى الثورة ثورة ولا فى الربيع ربيعا يستخدمون المصطلحين على سبيل التوصيف أو على الأقل بسبب عدم وجود مصطلحات أخرى لوصف الحالة. وفى الحقيقة أن الحالة العربية تختلف عن حالة سابقة حظيت بقدر أكبر من الاهتمام، على الأقل فى الإعلام االغربى، وهو ما حدث فى أوربا الشرقية والاتحاد السوفياتى السابق، فهذه البلدان شهدت تحولات كبرى لم تؤثر فقط على هذه البلدان بالمعنى الحصرى بل على منظومة العلاقات الدولية بأسرها. ومع ذلك لم نعتاد على وصف ما حدث فى أوربا الشرقية أو الاتحاد السوفياتى السابق بأنه ثورات، فغالبا ما قيل ويقال “انهيار الاتحاد السوفياتى” أو “الكتلة الشيوعية” أو غيره من التعبيرات، ولكن الأكيد أن كلمة “انهيار” هى التى كانت أكثر شيوعا لوصف الحالة هناك.
أتصور أن ما حدث فى المنطقة العربية لم يكن ثورات بقدر ما كان سقوطا لأنظمة فقدت مبررات وجودها ومقومات استمرارها. ولم يكن هذه الانهيار وليد لحظة لأن هذه الأنظمة بدأت فى التآكل بوقت طويل قبل انهيارها التام، وحالة نظام مبارك كانت المثال الأوضح على ذلك. صحيح أن التحركات الشعبية عجلت بتقويض جدران بعض هذه الأنظمة، وفى أماكن أخرى كان لا بد من تدخل خارجى لإستكمال المهمة، ولكن لم يتم حتى الآن إعلان وفاة أى من هذه الأنظمة وإن رحل رموزها. فالحالة الراهنة فى معظم البلدان تؤكد أن الأنظمة فى عمقها تقاوم وإن اتخذت أشكالا أخرى. وهنا تحديدا فإن المستمر ليس “الثورة” على حسب تعبير “الثورة مستمرة”، وإنما الاستمرار يتعلق بمحاولات الإسقاط، وكأن لسان حال حركة الشارع تقول أن “الإسقاط مستمر”.
ولهذا السبب كنت قد كتبت سابقا أن حركة الشارع قادرة على “نزع الشرعية” ولكن لم يثبت حتى الآن أنها قادرة على إضفاء شرعية على أى من البدائل للنظام القديم. وهذا ما يؤزم الموقف فى بلدان “الربيع العربى” ويشيع، لدى المواطن العادى، غموضا فى معنى الثورة ويجرى دائما طرح سؤال: ما البديل؟ وبالتالى إما مواصلة عمليات الإسقاط بإعتباره فعل “ثورى” أو الإحباط، أو توهم حلول سريعة أو الخضوع للتلاعب السياسى بالألفاظ من ربط الاستقرار بالتصويت بنعم للدستور.
يضاف إلى ذلك أن بعض القوى السياسية، خارج السلطة، تتوهم بأن عمليات نزع الشرعية عن السلطة كافية لكى تضفى عليها الشرعية. وهذا قد لا يكون سوى وهم أو انتهازية سياسية، فقواعد بناء الشرعية مختلفة تماما عن عمليات الهدم المستمر التى تجرى الآن. وبالمناسبة لن يكون فى مقدور جماعات “الهدم والإسقاط” مثل الألتراس أو البلاك بلوك أو غيرها من الحركات النشطة فى الشارع أن تكون مصدرا لشرعية أية قوة سياسية تطمح فى أن تقود نظاما سياسيا منضبطا. وهذا ما يؤدى إلى حالة الفراغ السياسى الذى نعيشه، وقد يستمر لفترة طويلة من الزمن وينطوى على مغامرات ومجازفات. ولكن الأكيد أن المجتمع وخاصة الفقراء سيدفعون ثمنا باهظا مقابل ذلك.