لكي نفهم مَثل السيد المسيح بشكل جيّد، لا بد قبل كل شيء أن نبعد عن فكرنا الحُكم المُسبق على الأشخاص الموجودين في هذا المثل. فنحن عندما نسمع مثل “الفرّيسي والعشّار” نضفي على الفريسي صفة سلبية ونساويه “بالمنافق”. بينما صورة العشار هي صورة الخاطئ المتواضع.
وللدخول في عمق هذا المَثل يجب أن نُفكّر فيه كما فهمه معاصرو السيد المسيح. فبالنسبة لهم، كان الفرّيسيون يشكلون جماعة الأتقياء الذين يمثلون المُثل الموسوية العُليا في تطبيق الشريعة، وذلك بجهد كبير وتضحيات عالية. لهذا السبب كان الفريسي يتمسّك ” بانفصاله ” (وهذا معنى كلمة فرّيسي) عن الذين لا يعرفون الشريعة ولا يطبّقونها، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب، وعمّن كانوا يُعتبرون خاطئين ، بسبب ظروف حياتهم. يُمثِّل الفريسي الإنسان المثالي، بحيث يقول من يراه : “هذا هو ما يجب أن أكون عليه “. أما العشّارون، فكانوا يشكلون مجموعة مكروهة من قِبَل الشعب. فهُم جباة الضرائب المتعاونون مع سلطات الحُكم الروماني. وهذه المهنة تجعل منهم خطأة وأنجاساً متواطئين مع السلطة المستعمرة الغريبة. أضف على ذلك أنَّ طريقة ممارساتهم لواجبهم تضعهم في خانة ” اللصوص ” . كان الرومان يطلبون منهم تحصيل الضرائب على شكل عطاء ، مما كان يمكّنهم من مضاعفة الضرائب ليكسبوا هم أيضاً . من هنا لم يكن العشارون محبوبين من قِبَل المستمعين للسيد المسيح. لذا يظهر الفرق واضحاً بين الشخصيّتين ، خصوصاً وأنهما يتواجدان معاً في الهيكل في وقت الصلاة .
إن التفاوت القوي بين الشخصيتين، وخصوصاً الفارق الكبير بينهما من الناحية الدينية، لا سيما في وضعهما في موقف صلاة، يُعطي المَثل حيوية كبيرة، ولا سيما وأنَّ التمايز بين الشخصين يصل في النهاية إلى قلب الأدوار. منذ البداية يصعد الاثنان معاً إلى الهيكل للقيام بنفس العمل ، أي الصلاة . ونجدهما في نهاية المطاف مُختلفين ؤ: فأحدهما ينزل إلى البيت مبروراً أما الآخر فلا ! التضاد الموجود منذ بداية المَثل وحتى نهايته ، وقلب طريقة التفكير في الفريسي والعشار يستحث القارئ كي يسترجع كل تطوُّرات النص للبحث عن الأسباب التي تفسِّر هذا التغيير. وهكذا ننتقل مِن دينامية الرواية إلى أخذ موقف مِن كافة الأشخاص . وهكذا يجد القارئ نفسه وكأن المَثل يحكم عليه .
فَهْمنا المُسبق لشخصية الفريسي كنموذج للإنسان المرائي، ولشخصية العشار كنموذج للإنسان المتواضع ، قد يخفف كثيراً مِن المفاجأة الموجودة في النص . لكن ليس هذا ما كان ظاهراً لمعاصري السيد المسيح . فبالنسبة لهم كان شكاً كبيراً أنْ يكون العشارّ باراًّ والفريسي غير بار أمام الله . فالتفسير العادي الذي يُبرز هذا التغيير الجذري في المعنى ، مِن ناحية السلوك النفسي الأخلاقي للشخصين، يقود إلى التعمُّق في البحث . ونحن إنْ تابعنا بعمق سرد القصة ، يمكننا أنْ نقف على حقيقة الاسباب التي قادت إلى الانقلاب النهائي للمَثل في الرواية الانجيلية .
غير أنَّ عبارة في صلاة الفريسي تكشف ما عناه يسوع . قال الفريسي : ” لأنني لستُ مِثل هذا العشار “. فهو يفهم وضعه أمام الله بالمقارنة مع هذا العشار : يعتقد أنه يعرف موقف الله مِن العشار، ويفترض أنه يعرف معيار الله في الحُكم على البشر . مِن خلال هذا نستطيع أنْ نفهم جملة يسوع الأخيرة التي توضِّح لنا وجهة نظره المعاكسة للحس العام لمُعاصري السيد المسيح .
رجع العشار مبروراً لأنه لا يدَّعي معرفة الله ، ولكنه يؤمن فقط بطيبة الله غير المشروطة والمجانية والتي وحدها يمكنها أنْ تجعله قادراً على الوقوف أمام الله . ولكن إنْ فهمنا جيداً جملة يسوع المبرِّرة ، فهي لا تتغاضى عن كِبَر خطيئة العشّار . لم يبرِّر العشار لكونه قامَ بفعل تواضع ، فلو كان الأمر هكذا ، لعدنا إلى تفكير اليهود المرفوض والقائل إنَّ الله يغفر بعد ما يقدِّم له الإنسان شيئاً . وكأن الله يقايض البشر . حاشا لله أنْ يفعل هذا . في الواقع ، ما يحمل على المغفرة هو أنَّ كل إنسان يقف أمام الله كخاطئ ، وما يجعل المغفرة ممكنة هو أنَّ الله لا يضع لمغفرته أي شرط مُسبق . هذا ما يجب أنْ يعرفه الإنسان أمام الله .
عادَ الفريسي إلى بيته غير مبرور لأنه لم يفهم هذه الدينامية . فعدم تبريره ليس عقاباً على تكبُّره . نُكرِّر إننا إنْ فهمنا المَثل كثواب أو عقاب ، نعود الى الفكرة القائلة أنَّ الإنسان يُقدِّم والله يكافئ ويجازي . وهذا مرفوض . وما دام الفريسي ، ومعه مُستمعو السيد المسيح ، لم يدركوا أنَّ الله لا يشترط شيئاً بل يقبل جميع الناس ، لا يمكنهم الدخول في علاقة صحيحة معه. إنَّ صلاة الفريسي خرجت عن الاتجاه الصحيح.
صورة الله التي يعرضها علينا يسوع المسيح تقضي بالتخلِّي عن الادعاء بحصر الله في مقياسنا للحُكم على الأمور ، وتطويعه لتبنِّي نظرياتنا في تقييم الناس حسب أداء كل واحد منهم . فكل علاقة حقيقية تقتضي أنْ يظهر كل طرف على حقيقته لا كما نريده أن يكون ، وهذا أمر ينطبق أولاً على العلاقة مع الله . وكل مرة يكشف الله ذاته للإنسان ، يُشعره دوماً أنَّ فكرته عنه غير كاملة . لذا فالإمكانية الوحيدة للقاء به هي التخلِّي عن ادِّعاء امتلاكه كي نبقى ننتظره . الإنسان المسيحي هو من يقبل أنْ يعيش هذا البُعْد، بُعد الأمل والبحث ، والذي مِن خلاله يستطيع الله أنْ يستمر في كشف ذاته في جدّته المستمرَّة .
وجه الآب الذي يُعلنه يسوع يدعونا إلى إعادة النظر في فكرتنا عن الله ، وفي طريقة حُكمنا على الآخرين . فتصرفاتنا كمسيحيين تعكس في الواقع صورة الله التي نحملها في داخلنا . وهكذا يمكننا أنْ نتعرَّف على صورة الله هذه في الرجوع الى طريقة تعاملنا مع الآخرين . ومِن هنا تأتي أهمية المَثل . فصورة الفريسي عن الله تجعله يتعامل مع العشار مِن منطلق المقارنة : فـ “هو ليس مِثل هذا العشار”. الفكرة عن الله بأنه يُصنِّف البشر يدفع الفريسي إلى إلقاء نظرة حُكم على الآخر : فهو بحاجة إلى أنْ يقارن نفسه بالآخر كي يشعر بالصلاح : ” لستُ كباقي الناس ” .
إنَّ الرغبة في معرفة موقعنا تجاه الله تُخفي في عُمقها الحاجة إلى الأمان ، والتي تجعلنا بسهولة نقع في مواقف عدم التسامُح تجاه مَن هم مُختلفون عنا . ولا تظهر هذه المواقف فقط في احتقار الآخرين ظاهرياً ، بل أيضاً مِن محاولة تصنيفهم .
أما أنْ نضع أنفسنا أمام الله الذي لا يضع شروطا لقبولنا، فهذا يعني ضرورة النظر إلى أنفسنا بكل وضوح كما فعل العشّار. إنَّ الطريق لمعرفة ذواتنا معرفة حقيقية ، وخصوصاً لمعرفة واقع الخطيئة فينا ، يصبح ممكنا فقط أنْ نظرنا إلى مغفرة الله . هذا لا يعني أبداً الاهمال أو عدم النظر إلى خطايانا الخاصة بجديَّة ، فالعكس تماماً هو الصحيح . فمَن يعرف أنَّ الله بَرَّره لا يحتاج إلى أنْ يُبرِّر خطاياه ، بل إلى أنْ يقرَّ بها . أما مَن يشعر أنه موضع حُكم ، فإنه يضطَّر إلى أنْ يجد طريقة يبرِّر بها موقفه . وهو بذلك بدلاً مِن أنْ ينظر إلى رحمة الله ، يحاول مقارنة نفسه هو مع إنسان آخر أسوأ منه .
وهكذا يقبلنا الله كما نحن لا كما نريد أنْ نكون ، ويؤهِّلنا لأنْ نعرف حقيقة ذواتنا وحدودنا وأخطائنا ، ويضعنا في الظرف اللازم لتخطيها . مَن ينظر إلى حياته بهذه الطريقة ، يكتشف أنَّ كل أخ يعيش في نفس الظرف أمام الله : لذا لا حاجة إلى تصنيف الآخرين والتعارض معهم.
عندما ندرك حقيقة ذواتنا أمام الله نشعر في داخلنا بمساحة ثقة وقبول . وهذا الموقف أساسي لكل مؤمن كي يلتقي بالله وبالآخرين . فنحن نستطيع أنْ نقبل الآخرين فقط إنْ أظهرنا لهم ثقتنا ، وإنْ رأوا أننا لا نحكم عليهم مُسبقاً بل ننتظر منهم شيئاً جديداً . وحتى مَن يعيش حياة تعيسة، ويظن أنه هالك لا محالة، يمكنه أنْ يؤمن بامكانية الرجوع إلى الله والانفتاح على الآخرين ، إنْ هو شعرَ إننا ننظر إليه نظرة ثقة . هذه هي النظرة التي ينظرها يسوع إلى مستمعيه ولهذا يطلب منهم أنْ يغيِّروا نظراتهم إلى الله .
يمكننا أنْ نفهم الآن ما يريد الإنجيلي لوقا أنْ يطبقه مِن المَثل على الجماعة المسيحية الأولى . شجبَ لوقا موقف الذين ” يدَّعون أنهم أبرار ويحتقرون سائر الناس “. وهو موقف خاطئ ليس فقط لأنه يدين إنساناً خاطئاً ، بل لأنه يُعبِّر عن تشويه كبير للواقع . هذا التصرُّف ناتج عن فهم خاطئ لصورة الله . يجب أنْ نتجنَّب تحويل المَثل إلى إدانة أخلاقية ، وأنْ نفهمه في بُعده االعميق . وكما في باقي أمثال يسوع، لا يدعونا مَثل الفريسي والعشار إلى إجراء بعض التغييرات البسيطة في تصرُّفاتنا الخاطئة فحسب ، بل يشدُّنا ويلزمنا إلى اكتشاف صورة الله فينا والتي تتحكم في توجيه حياتنا .