وُلِدَ لكم اليوم مخلص، فلْنفرحْ ولْنبتهجْ. لقد جاء المسيح إلى ليلنا الصامت فجاءنا معه النور، وأصبحت كل ليالي الإنسان نهاراً. فكما حدث للعذراء وكانت متهللة في قلبها بميلاد المسيح، كذلك فعلينا أن نستقبل المسيح في ذِكرى ميلاده ونحن في ملء الفرح.
والكنيسة منذ الميلاد وحتى الآن في تسبيح مستمر، تشترك مع السمائيين في تمجيد الله على عظيم رحمته. وقد اتخذت الكنيسة في مناسبة الميلاد تسابيح ذات معانٍ لا يستطيع إدراكها إلَّا مَن عاش فرحة الميلاد، فرحة مَن رأى في تاريخ البشرية تحوُّلاً من الكآبة إلى الفرح. فالكنيسة تقدِّم التسبيح لله الذي صار إنساناً من أجل أن يرفعنا إليه، وتسبِّح العذراء التي وَلَدَت في ملء الزمان مَن هو غير خاضع للزمن. وهي تسبِّح أيضاً الأبدي غير المحدود الذي تخلَّى عن عرشه الشاروبيمي ليتخذ له مكاناً في قلب كل واحد منا.
إنه بميلاد المسيح ظهرت محبة الله الفائقة تجاه الإنسان. لذلك فعلينا إن أردنا محبة الله أن نعيش الميلاد دائماً، أن نعيشه في كل شيء من حولنا. فالميلاد بالنسبة لنا يجب أن يكون ” نظرة جديدة “ لكل شيء. إذ ننظر بـ ” الميلاد “ إلى كل حَدَثٍ، لنلد لنا منه فرحاً يفيض علينا وعلى كل ما حولنا.
على أنَّ هذه النظرة الميلادية لا يمكن أن نقتنيهـا إلَّا إذا كان لنا كمـا كان للعذراء لسـان حال يقـول في كـل لحظة مُخـاطبـاً الله : « نعم ، ليكن لي كقولك ». فبهذه ” النَّعَم “ سوف يُولد لنا كل شيء جديداً، وسنتغير نحن شيئاً فشيئاً حتى نصير خليقة جديدة كما أراد لنا المسيح.
اللقاء المقدس:
بعد أربعين يوماً من ميلاد الطفل يسوع، قدمته أُمه للهيكل في أورشليم، كما تو وقبولها لمشيئة الله. فلقد تقدَّمت مريم إلى الهيكل بابنها وعيناها على الله الآب الذي سوف يستقبل كلمته، تقدَّمت وهي ترى بعينيها تجسُّداً لابن الله، تقدَّمت وهي مُدركة تماماً كيف أن الله الكلمة أخلى ذاته وتجسَّد منها، ووُلِدَ في مذود للبهائم كأفقر الناس، وهذا كله هو ما تغنَّى به بولس الرسول مُعلِناً أن يسوع المسيح « الذي إذ كان في صورة الله، لم يَحْسِب خلسة أن يكون مُعادِلاً لله . لكنه أخلى نفسه ، آخذاً صورة عبد ، صائراً في شِبه الناس » (في 2/ 6-8). لذلك فعلينا نحن أيضاً أن نجحد ذواتنا ، لأنه بقدر ما نُخلي ذواتنا من شهوات العالم بقدر ما يحلُّ فينا سرُّ المسيح.
تقديم المسيح إلى الهيكل ، ومقابلة سمعان الشيخ :
ونصل إلى محطة مهمة أيضاً في حدث تقديم العذراء للطفل يسوع إلى الهيكل، أَلاَ وهي المقابلة مع سمعان الشيخ. وهذا الرجل يمثل العالم القديم المُتعَب والمثقل الذي أضناه البحث والانتظار للعمل الإلهي ، للخلاص المجاني. ولقد قدَّمت له العذراء الإجابة، ففي هذا العالم الذي يطارده العجز والضعف بل والموت ، قدَّمت سرَّ الحياة ، يسوع المسيح المخلِّص. ولذلك انطلق سمعان متهللاً : « الآن تُطلِق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدَّام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأُمم، ومجداً لشعبك إسرائيل » (لو 2/ 29-32).
لذلك فلا عجز ولا شيخوخة ولا خوف من الموت لِمَن يحتضن المسيح في قلبه فرحاً، إذ أنه سوف يُبصر في الحال الخلاصَ الثمين المُعدَّ له ، فيشتهي الانطلاق .
عرس قانا الجليل :
إذا أردنا أن نتحدث عن عُرس ( فرح ) قانا الجليل، فلابد وأن نتحدث بالتالي عن الحب، لأنه لا يمكن فصل الفرح عن الحب. فالحب يقود إلى الفرح، والفرح هو تعبير عن الحب. أو بمعنى آخر ” حيث يوجد الحب يوجد الفرح أيضاً، وإذا لم تجد الفرح فاعلم أن الحب ناقص “.
في عُرس قانا الجليل طلبت العذراء من يسوع ابنها أن يُعلن، ولأول مرة، مجده كمسيَّا! ففي أثناء الحفل نقصت الخمر ( رمز الفرح ). ومريم العذراء لاحظت ذلك وتأثرت بشكل كبير، إذ اعتبرت نقصان الخمر بمثابة شَرخ لهذا الفرح ، لهذا فقد ذهبت إلى ابنها لتخبره بأنه ” ليس لهم خمر “ ، وهي كانت تعلم تماماً أن نقصان الخمر ( رمز الفرح والمحبة ) لم يكن ليُسِرّ المسيح.
ونستطيع أن نتفهم قلق العذراء من نقص الخمر إن تأملنا قليلاً في الطقس اليهودي ، حيث نعرف أن كأس الخمر كانت تُقدَّم مرتين أساسيتين : الكأس الأولى في بداية الوليمة قبل الأكل، وكانت تسمَّى ” تقدمة الضيافة “ أو ” تقدمة الاستقبال “ ، والكأس الثانية كانت تُقدَّم بعد الانتهاء من الوليمة، وكانت تُسمَّى ” تقدمة الشكر“ ، إذ كانت تُقدَّم للبركة والشكر (على أن كسر الخبز كان يسبق كُلاًّ من الكأسين ).
ومن هنا تأتي أصل كلمة ” إفخارستيا “ التي تعني ” شكر “. لذلك نلاحظ أن هذه الكأس الثانية ( كأس الشكر ) هي التي ذُكِرَت بعد العشاء المقدس الذي كان يجتمع فيه المسيح بتلاميذه : « وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خُبزاً وبارك وكَسَّر، وأعطاهم وقال: خذوا كُلُوا، هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وشَكَرَ وأعطاهم ، فشربوا منها كلهم. وقال لهم : هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين » (مر 14/ 22-24).
«مهما قال لكم فافعلوه ». فالاستماع لكلمة الله والعمل بها هو علامة التلمذة للمسيح، لذلك فإننا يمكن أن نقول إن العذراء قد وَلَدتنا للمسيح في هذا العُرس، فصرنا له ليس فقط أبناء بل وتلاميذ مخلصين. كذلك فقد أصبحت العذراء أُمّاً لتلاميذ المسيح من خلال قولها هذا.
ولقد قَبِلَ المسيح أن يبدأ رسالته في هذا الوقت وتلك الظروف ، لماذا ؟ لأن العذراء التي تمثل أُم البشرية كانت تمتلك ذلك القلب المُهيَّأ لاستقبال عمل المسيح.
لقد بدأ المسيح رسالته المسيَّانية بعُرْس قانا الجليل، ولن ينتهي هذا العُرس، ولن تنتهي رسالته إلَّا بالعُرس السماوي الأخير الكبير الذي أخبر عنه إشعياء، والذي فيه أيضاً تُقدَّم ” الخمر الجديدة “ : « ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجيل وليمة سمائن ، وليمة خمر… » (إش 25/ 6).
المسيح عُرْسُنا اليومي :
منذ عُرس قانا الجليل وحتى الآن، والله لم يتوقف عن العمل في حياتنا من أجل تتميم أفراحنا، فهذا الوقت هو وقت عُرْس، هو وقت إجراء الآية، هو أبدية حاضرة : « ملكوت الله داخلكم » (لو 17/ 21).
ففي التفاصيل الصغيرة في ظلمة عالمنا، وبالرغم من تفاهة ما فيه، يقف المسيح ليُعلِن دائماً : « املأوا الأجران ». فلا تَخَف من أن تكون فارغاً، أنت أو الذين حولك، فإن المسيح ماثِل دائماً أمامنا ومعه ماء الحياة ، معه خمر عُرس المحبة. المسيح ماثِل ليُغيِّر حياتنا المائته التي لا طعم لها ولا لون ، إلى حياة فيها رائحة المسيح ، وفيها تذوُّق للأبدية.
ولكي نحصل على الخمـر الروحية عـلينا أن نشرب كأس المسيح كما هي ، كما تُـقدَّم لنا ، علينا أن نشربهـا بل ونصطبـغ بها : « فأجاب يسوع وقال: لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا ؟ قالا له : نستطيع. فقال لهما : أما كأسي فتشربانها ، وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان » (مت 20/ 23،22).
إذن، فالعريس الحقيقي لعُرس قانا الجليل كان هو المسيح الذي يبحث عن الإنسان لكي يعطيه خمر الحب والفرح.فكلنا مدعوُّون لعشاء عُرس الخروف لنصير جميعاً جسداً واحداً للعريس الواحد، كلنا مدعوُّون لسرِّ الإفخارستيا كي نصير كياناً واحداً قادراً على التغيير أي النمو الروحي.
وعلى الرغم من كل ماسبق لقد صار الله ضعيفاً وسريع العطب في طفل المغارة لكي ندع سرعة عطبه هذه تمسّنا وتجرحنا. فمريم في سّر الميلاد تعلّمنا أن نعيش روحياً من جديد وتدعونا لنستسلم للحب وأن نستقبل الحب المخلَّص الذي يظهر لنا في هذا الطفل الإلهي، لكي يتغلغل خلاصه في قلوبنا وعقولنا وكياننا وفي جراحات نفوسنا. ومنذ هذه اللحظة بالذات نصبح أحراراً ملأ حرية أبناء الله. فلنثق بحضوره في ظلمة حياتنا وخوفنا وإحباطنا ونزاعاتنا وأمراضنا وحروبنا. إنه هنا سيولد في أعاصير شهواتنا وصراعاتنا. فقلب الإنسان هو ذاك الوعاء السريع العطب الذي يبقى فارغاً إلى أن يسكن الله فيه.
نعم يطل علينا ميلاد هذا العالم فيما بلادنا ومنطقتنا لا تزال تعاني من آثار الصراعات والخلافات والمشادات والتراشق الكلامي فضلاً عن التفجيرات وقتل الأبرياء. أن ميلاد هذا العام يطل علينا فيما عدد الفقراء والمهمّشين والمظلومين آخذ بالتّنامي، عدد ساكني الشوارع يزاد يوماً بعد يوم ، فهل من مغيث؟