هناك ثلاثة سيناريوهات للتعامل مع إيران وسياساتها الخارجية, وأولها هو تسمية نوعية الصراع الذي تديره طهران باسم واضح لا لبس فيه وبناء الاستنتاجات وفقا لهذه التسمية. فهل ما تقوم به إيران اليوم هو ما يمكن تسميته بمواجهة استراتيجية مع إسرائيل والولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام Strategic Confrontation, مما يضع الحالة الإيرانية في سياق عالمي أوسع؟ أم إن إيران هي المحرك لما يمكن تسميته بالحرب الباردة الشرق أوسطية, علي غرار ما كتبه البروفيسور آفي شلايم عن الحرب الباردة العربية في الستينيات والسبعينيات في توصيف المواجهة بين الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز والرئيس الراحل جمال عبد الناصر, إلا أنها اليوم مواجهة بين السعودية وإيران, علي اعتبار أن محمود أحمدي نجاد هو ناصر بـ ##لباس فارسي##؟ وفي هذا السيناريو الثاني تنحصر المسألة الإيرانية في بعدها الإقليمي علي مستوي دول المنطقة. أما السيناريو الثالث فهو أن سلوك إيران محكوم بحالة الاستقطاب الشيعي ـ السني, أو ما أطلقت عليه في سياق آخر مصطلح السوشي, في إشارة إلي الوجبة اليابانية الشهيرة, كاختصار لمصطلح (سني ـ شيعي). وهذا السيناريو يضاف إلي دور الدول كلاعب في المعادلة, بعد الحركات الشعبية والإسلامية. وفي كل مستوي من التحليل والسياقات نكون محكومين باللاعبين المشاركين, سياق دولي وسياق إقليمي تكون الدولة هي اللاعب الرئيسي فيه, وسياق إقليمي تكون فيه الحركات مثل حزب الله وحماس هي اللاعب الأهم مضافة إليها الدولة الكفيلة أو الدولة الراعية. وأي سيناريو نعتمده للتحليل سوف يؤدي إلي نتائج وتصورات مختلفة في التعاطي مع الحالة الإيرانية, وبناء عليه يمكننا أن نصوغ بعض التوصيات فيما يخص إدارة الصراع مع إيران في السياقات المختلفة.
هذه السيناريوهات هي ملخص لورقة تقدمت بها لواحدة من جلسات الحوار حول إيران في الغرب وسأعرض لها هنا باختصار.
يجب ألا نتردد في الاعتراف بأن إيران قد كسبت الجولة في المواجهة الاستراتيجية في سياقها العالمي. ومؤشرات هذا الكسب أربعة. أولا ليس إيران كلها, وإنما جزء منها متمثلا في حليفها حزب الله قد هزم القوة الإقليمية الكبري في الشرق الأوسط وهي إسرائيل في حرب صيف عام 2006, وبالتالي فقدت القوة العسكرية هيبتها وقدرتها علي الردع, علي الأقل في عيون العرب والمسلمين. ثانيا, أن إيران أجبرت الغرب علي إزاحة الخيار العسكري من علي الطاولة, وبدا الغرب يتبني الحوار الدبلوماسي كوسيلة للتعاطي مع الملف النووي الإيراني, مما أعطي إيران فسحة في التعاطي مع الضغوط العالمية والإقليمية. ثالثا, استطاعت إيران أن تكسب الحرب في العراق ونجحت في وجود عراق بحكومة أقرب إليها منها إلي أمريكا أو إلي دول الإقليم العربية. رابعا, أن الدول الخليجية الصغيرة, قبلت هذا الوضع وهرع الكثير من قادتها لاسترضاء إيران في عقر دارها, حيث ذهبت قيادات بعض هذه الدول إلي طهران مهنئة أحمدي نجاد بفوزه في الانتخابات.
إذا كان الأمر كذلك فهناك نتيجتان لهذا السيناريو. الأولي هي أن الدول العظمي محدودة في قدراتها حول ما يمكن فعله تجاه إيران, وأن الأدوات التي تمتلكها للضغط علي إيران ضعيفة, وعليه سيقبل الأمريكيون والأوربيون بصفقة مع إيران تمنحها الدور الرئيسي في تشكيل أمن المنطقة وسيكون لها نصيب الأسد في معادلة توازن القوي في الخليج. في هذا السياق التفاوضي بين إيران والغرب, لن يكون الخليج جالسا علي الطاولة مع إيران والغرب لمناقشة الصفقة, بل سيكون الخليج هو الصفقة نفسها التي ستتقاسمها إيران والغرب. أما إذا أرادت أمريكا أو أوروبا الحد من نفوذ إيران فليس أمامهما سوي خيار اللجوء إلي القوي الإقليمية مثل مصر والسعودية وتركيا. وهذا يصب في مقولة أكبر مفادها أن دور القوي الإقليمية مثل السعودية ومصر وتركيا هو أهم بكثير من دور الولايات المتحدة وأوربا في تشكيل معادلة توازن القوي الإقليمي.
السيناريو الثاني, هو سيناريو الحرب الباردة الشرق أوسطية, والتي سميت مجازا في الإعلام العربي بمحوري الممانعة والاعتدال. محور الاعتدال المتمثل في السعودية ومصر وبعض دول الخليج أو أعضاء لقاء أبوظبي, الذي سمي خجلا بمحور التضامن العربي, ومحور الممانعة تقوده إيران ومعها سورية وقطر وبدرجة خجولة جدا عمان, إضافة إلي الحركات السياسية المتمثلة في حزب الله وحماس والإخوان المسلمين. ورغم أن إيران انتصرت في المواجهة الاستراتيجية علي المستوي العالمي, إلا أنها ما زالت متعثرة علي المستوي الإقليمي وربما تهزم في هذه الحرب الباردة. فسجل السعودية التاريخي في حروبها الباردة في الإقليم يرجح بأن إيران أحمدي نجاد قد تري مصيرا أشبه بمصير ناصر في مواجهته مع فيصل, أو مصير صدام في مواجهته مع السعودية في التسعينيات, فالنظام السعودي المحافظ ورغم أنه لا يعلن عن كل أدواته إلا أنه يمتلك قدرات أثبتت فعاليتها ضد عبد الناصر في الستينيات وضد صدام في التسعينيات, فهل ستنجح الأدوات نفسها ضد إيران التي تلعب بأوراق الحركات داخل الدول, وهي أوراق لا يستهان بها في الوضع الإقليمي الحرج اليوم؟ ليس خافيا بالطبع, أن هناك مواجهة سعودية ـ إيرانية في لبنان وفي البحرين وفي اليمن وكذلك في فلسطين, وحتي الآن تبدو إيران في موقف المدافع, ولكن النتيجة لم تحسم بعد. ولم تتورع إيران من التجرؤ علي مصر في أكثر من موضع آخرها قصة خلية حزب الله التي تحاكم في مصر.
إذا كان هذا هو السيناريو وهذا هو الصراع, فإن تدخل القوي الكبري مع طرف لحساب طرف آخر قد يحسم الصراع السعودي ـ الإيراني لمصلحة أي من الطرفين. ورغم أن أمريكا والغرب يعلنان دائما دعمهما لمحور الاعتدال, إلا أن نتائج سياساتهم علي الأرض تصب في مصلحة محور الممانعة, حيث قدموا أكبر الخدمات لإيران عندما أطاحوا بعدو نظام الملالي الأول في المنطقة وهو رئيس العراق السابق صدام حسين, كما أن أمريكا هي التي قضت علي نظام سني في أفغانستان كان مزعجا لإيران وهو نظام طالبان, وأمريكا هي التي تقيم حوارات مع الإخوان علي حساب أنظمة الاعتدال.
السيناريو الثالث هو الذي يخص المواجهة السنية الشيعية. هذه المواجهة التي تتجلي في لبنان واليمن والعراق, إضافة إلي التشيع السياسي المتمثل في الإخوان المسلمين في فلسطين ومصر. وهذا سيناريو يسمي بالحروب الممتدة, أي صراع يبقي لفترات طويلة, شيء أشبه بصراع الجنوب والشمال في الحالة السودانية أو الصراع العربي الإسرائيلي, وهو يحتاج إلي سياسات تأخذ المدي البعيد كأساس في تقديراتها. فالصراع السني ـ الشيعي, حقيقة كان أم وهما, لن يحسم خلال الثلاثين عاما المقبلة, ويحتاج إلي التفكير في أدوات إدارة الصراع الاجتماعي والسياسي الممتد. ولن يكون للقوي العظمي دور في حسم هذا الصراع لصالح طرف ضد الآخر, فلا الولايات المتحدة دولة شيعية رغم أن سياساتها جاءت لمصلحة الشيعة في إيران والعراق, ولا أوربا مجتمع سني, لذا سيبقي الصراع السني الشيعي إقليميا وستكون آثاره سيئة لأنه سيؤدي إلي انتصار مفهوم الطائفة علي الدولة, وبهذا يمهد لانتهاء الدولة الحديثة في الشرق الأوسط, وندخل في سلسلة من الدول الفاشلة أو الدول التي في طريقها إلي الفشل. هذا ملخص لسيناريوهات طرحتها للعقل الغربي, وظني أن تأثيرها علي العقل العربي سيكون مختلفا, وردات الفعل تجاهها ستكون مختلفة أيضا. ومع ذلك أعتقد بأنها السيناريوهات الثلاثة الوحيدة التي تقربنا من فهم الحالة الإيرانية اليوم.