قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (588)
فضيحة قرية الكرم مركز أبو قرقاص بالمنيا حلت بنا متعددة الوجوه والمستويات… فهي فضيحة للمسئولين -سياسيين وإداريين وأمنيين- وفضيحة للدين والأخلاق والقيم وفضيحة للرجولة والشهامة. ولأننا لا نتعلم أبدا من سقطاتنا جاءت الفضيحة سيناريو متكررا لمسلسل قديم معروف فيما يخص المسئولين والدين والأخلاق والقيم. لكن الجديد هذه المرة كان سقوط المجرمين في مستنقع الخزي والعار باستباحتهم عرض امرأة مسنة للتنكيل بها… ولم لا؟… ألم يتركوا في السابق يفلتون بفعلتهم الدنيئة باعتبارهم يزودون عن دينهم وكرامته وشرفه؟!!… ألم يبتلع المسئول اغتصابهم صولجان القانون وادعاءهم فرض العدالة واندفاعهم لإنزال العقاب الجماعي بالأقباط بشكل همجي, فخرج يلتمس لهم العذر ويهون من فداحة جرمهم ويرعي عقد المجالس العرفية للمصالحة بين الجاني والضحية حيث يتم دفن هيبة الدولة مع القانون وإعلاء شريعة الغاب؟!!.
وأعجب من المناخ المريض المتروك يعيث فسادا وتغييبا للعقل والقانون… فأمام هذه الجريمة النكراء تنطلق التصريحات لتفسير بواعثها بأن هناك علاقة بين شاب مسيحي وسيدة مسلمة -وبالرغم من ثبوت عدم صحة ذلك وأنها مجدة شائعة لا أساس لها من الصحة- إلا أن ذكر العلاقة يتكرر وكأنه يقدم تبريرا للجريمة… يا سادة سواء كانت العلاقة ثابتة أو شائعة أيتم تغييب العقل والقانون وترك الأمر في أيدي الرعاع والغوغاء لينزلوا القصاص والعقاب الجماعي باسم الذود عن الدين؟!!… أيتم الاستهانة بتهديدات أولئك الغوغاء من قبل المسئولين بالرغم من سابق إخطارهم وتحذيرهم, فتقع الجريمة وتمتد فصولها الإرهابية لساعات دون تدخل مسئول للحيلولة دون وقوعها؟!!… وتكون النتيجة المعهودة أن المسئولين يسقطون متلبسين بالتقصير فيبادروا بستر عوراتهم بالتخفيف من هول الكارثة والتماس الأعذار للجناة والدعوة للمصالحة!!… أما هيبة الدولة وسيادة القانون فعليهما السلام!!.
وإمعانا في تغييب العقل والقانون يهرع ممثلو المنظمات المدنية والمؤسسات الوطنية لزيارة القرية وتفقد أحوال الضحايا ومنازلهم المنكوبة بهدف رأب الصدع في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين!!.. ويمطرونا بتصريحاتهم الوردية عن المصالحة والعيش المشترك ووحدة عنصري الأمة وضرورة ضبط النفس من أجل إفشال مؤامرات الأشرار لهدم الوطن!!… ياسادة ما هذا الهراء؟…ما دخل كل ذلك في جريمة إرهابية نكراء تتطلب تعقب الجناة والقبض عليهم وتقديمهم للعدالة وإنزال العقاب الذي يقتضيه القانون بهم؟… إن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين ثابتة وأصيلة ولا دخل لها بما حدث بدليل أن الضحايا الأقباط أكدوا أن جيرانهم المسلمين دافعوا عنهم بقدر إمكانهم أمام هجمات الغوغاء وتولوا إخفاءهم في بيوتهم وتعاطفوا معهم بما تمليه عليهم طبيعتهم الأصيلة ومتانة العيش المشترك بينهم… وتحضرني هنا المقولة المضحكة المبكية التي كررناها كثيرا في الأحداث المماثلة: قبل أن تطلب مني أن أضبط نفسي قم أنت بضبط الجناة وتقديمهم للعدالة.
صحيح أن بيان رئاسة الجمهورية الذي صدر في أعقاب ذلك الحادث المشئوم وجه بضرورة تعقب الجناة والقبض عليهم وأعطي مهلة شهرا للمحافظ وبمساعدة القوات المسلحة لإصلاح المنازل والمنشآت التي جري تحطيمها ونهبها وحرقها, وذلك من شأنه أن يحول دون ما عهدناه من مماطلة وتسويف في تعويض الضحايا ومن الانزلاق نحو رعاية جلسات الصلح العرفية الهزلية… لكن ورد في بيان الرئاسة أيضا تعبير مهم أرجو ألا نتركه يمر مرور الكرام ويذهب مسكوتا عنه وهو السيسي يوجه بمحاسبة المتسببين في هذه الأحداث وإحالتهم للسلطات القضائية المختصة.
وأرجو أن نعي جميعا أن المتسببين في هذه الأحداث ليسوا وحدهم المجرمين والغوغاء الذين ارتكبوا الجريمة,لكنهم أيضا المسئولون الذين قصروا في الحيلولة دون وقوعها, وذلك ثابت في الوقائع التي رصدها مجلس النواب وكان علي أثرها أن طالب عدد من نواب المجلس بتشكيل لجنة تقصي حقائق حول الأحداث علاوة علي تقدمهم بطلب إلي رئيس المجلس لاستجواب وزير الداخلية في ذلك الشأن علي خلفية قيام الأقباط في القرية المنكوبة بتحرير محضر في قسم الشرطة ذاكرين فيه التهديدات التي تلقوها قبل الجريمة ومطالبين الشرطة بحمايتهم, لكن الشرطة تقاعست عن ذلك وتركت الجريمة ترتكب وتكتمل دون تدخل منها.
إذا يا سادة… المتسببون في هذه الأحداث ليسوا الجناة وحدهم ولا المجرمين الجاري تقديمهم للعدالة وحدهم… بل هناك من المسئولين الذين ينبغي التحقيق معهم وإخضاعهم للمساءلة والحساب.