تنشغل الكنيسة الارثوذكسية طوال هذا الشهر بالاحتفال بتذكارات التجسد و الالهي و المعمودية المقدسة التي لربنا يسوع المسيح الذي جاء للعالم من اجل خلاصنا, ليردنا مرة اخري الي طبيعتنا الاولي التي خلقنا عليها.
و التجسد في المسيحية هو احد العقائد الاساسية التي يبني عليها الايمان المسيحي, و هي عقيدة ترتبط دائما بنظام الكنيسة و بكل ممارساتها الطقسية , ففي صلوات القداس الالهي يصلي الكاهن ” لانه لا ملاك و لا رئيس ملائكة و لا رئيس اباء و لا نبي أئتمنته علي خلاصنا بل انت بغير استحالة تجسدت و تأنست ..” كما يردد كل الشعب المسيحي في كل العالم كلمات قانون الايمان النيقاوي قائلا ” نؤمن برب واحد يسوع المسيح … هذا الذي من اجلنا نحن البشر و من اجل خلاصنا نزل من السماء و تجسد من الروح القدس و من مريم العذراء و تانس …”
و لكي نفهم ايمان المسيحية في فكرة التجسد نحتاج ان ندرك ان الله قد خلق الانسان و اعطاه الوصية, و لما خالف الانسان وصية الله صار محكوما عليه بالموت ليس موت الجسد فقط بل ايضا بالموت الروحي و هو الانفصال عن الله , و الموت الابدي أي الهلاك بسبب فساد طبيعته الاولي.
فبهذا السقوط فسدت طبيعة الانسان النقية و صار للشيطان سلطانا علي الانسان , و عن هذا يكتب القديس اثناسيوس الرسولي في كتابه تجسد الكلمة قائلا ” لما كان الانسان قد اخطأ و صار معرضا للموت و الهلاك حسب تحذير الرب له ” تك 2: 17 ” و لما كان الانسان عاجزا عن تخليص نفسه لذلك تجسد المسيح و اخذ جسدا قابلا للموت لكي بموته يقدس الانسان بان يموت عوضا عنه…” و يكمل القديس اثناسيوس قائلا ” ان محبة الله لم تقبل ان يسود الفساد البشر و ان ينشب الموت اظافره فيهم و الا فما الفائدة من خلقتهم من البدء , لانه كان خير لهم الا يخلقوا من ان يخلقوا ثم يهملوا … ”
لقد كان السبب في التجسد الالهي هو رغبة الله المحب ان يخلص الانسان من فساده الذي اوقع نفسه فيه بمخالفته للوصية ..
و لكن ربما يسأل البعض الم يكن كافيا ان تعتذر الانسان و يتوب عن خطيته ؟ و هنا تاتي الاجابة ان توبة الانسان كانت عاجزة ان توفي عدل الله حقه فان لم يقع الانسان في قبضة الموت سيكون الله الذي حذر الانسان من المخالفة غير صادق , كما ان التوبة عاجزة عن تغيير طبيعة الانسان التي فسدت , لذلك كان لابد ان يأتي كلمة الله الي عالمنا ليخلصنا من حكم الموت.. و يغير طبيعتنا الفاسدة ..
فالخلاص في المفهوم المسيحي يختلف عنه في الاديان الاخري, فالاديان الاخري تؤمن ان الله يرسل من يخلص, اما المسيحية فتؤمن ان الله يخلص بذاته !!! و لماذا يخلص الله بذاته ؟؟
الخلاص في المفهوم الكتابي المسيحي كصيغة فعل يعني يوسع .او يخرج الي الراحة, او يحرر من المحدوديات , كالمرض(اش 38 : 5-20 )او الضيق (ار30 : 7 ) او الاعداء ( 2صم 3: 18 )
و المخلص في صيغة الفاعل تعني المنقذ … فالله في العهد القديم كان هو الذي يخلص ” فباطل هو خلاص الانسان ” و في العهد الجديد يقتصر كلمة مخلص علي الله الاب و ابنه يسوع المسيح ففي احداث الميلاد بشر الملاك الرعاة قائلا ” ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب ” ( لو 2 : 21 ). كما كلم الملاك يوسف ” و تدعو اسمه يسوع لانه يخلص شعبه من خطاياهم ”
( مت 1 : 21 ).
اما كلمة الخلاص بصيغة المصدر فاظهرت ان الخلاص في الفكر المسيحي ليس بالحكمة و لا بالاستحقاق الادبي او الديني و لا بالنظم السياسية , لكنه عمل الله الذي تحقق في التاريخ بشخص ربنا يسوع المسيح , فهو لم يخلص العالم بالحكمة بل باكمال عمل الفداء ” الذي اسلم من اجل خطايانا و اقيم من اجل تبريرنا ” ( رو 4 : 25 ), فالخلاص في المسيحية يعني الخلاص من الخطية
( رؤ 1 : 5-6 )و من الموت الابدي ( 1 بط 1 : 3-5 ) و من الدينونة ( رو 5 : 9 ) و من لعنة الناموس ( غل 3 : 1-2 ) و من العبودية للشيطان ( غل 5 : 1-2 ) و من الاحساس بالذنب ( عب 10 : 22 ) و من الخوف ( عب 2 : 15 )…
و اخيرا فالخلاص في المسيحية خلاص ابدي ننال استحقاقاته عندما ننال نعمة المعمودية المقدسة التي فيها ننال كل بركات الخلاص و التي رسمها لنا الرب يسوع عندما اعتمد في نهر الاردن.
و هنا يبقي السؤال .. لماذا التجسد اذا ؟