هكذا تقول الطبيعة كلمتها فى كل زمان ومكان حيال الولادة بالجسد عندما تمزق أنات النفس اللحم والدم البشرى فى لحظة إنسانية فارقة بين الحياة والموت… لتصعد إلى السماء مستغيثة راجية أن يحسم هذا الصراع فى النهاية لصالح الحياة… عندما يمتزج الدم بالعرق بالدموع… عندما تدوى صرخة المرأة لتطلق جنينها من الرحم المحدود إلى العالم الرحب وهو يصرخ ولا زال ملتصقاً بها بحبل سرى غاية فى الدقة والروعة لتلتقى الصرختان فى الفضاء الكبير للإعلان عن مجئ إنسان جديد للعالم…
فى هذه اللحظة فقط يتحول الضيق إلى راحة ويتبدد الحزن ليفسح الطريق للفرح الحقيقى… ها هى تضم وليدها لصدرها الدافئ بفعل الألم والتنهدات… تهدهده… تسقية الماء بالسكر… تأخذ أنامله الضعيفة لتقبلها… تلقمه ثدييها فيضغط عليها بكل أنات العطش والجوع… ولا زالت أنامله تعبث بها… يدفن رأسه الصغير بين ثدييها مستسلماً للنوم فى عالم من نوع آخر غير العالم الذى كان يعرفه قبل ساعات أوحتى دقائق… تحكى له ويحكى لها أشياء كثيرة…
وهنا لا تعود المرأة تذكر الشدة التى كانت عليها حتى لأنها تكرر التجربة مرات بل تتوق لهذه الساعة فلا تدخر جهداً للوصول إليها ما دامت تنبض بالحياة…
مصر… يا أمى…
سنوات وسنوات وأنت تتوجعين… تتوقين لأولادك الذين تتمخضين بهم فى كل لحظة ينطلق فيها بكاء وليد جديد وعلى كل ذرة من ثراك الغالى… شاب هنا… وفتاة هناك… تمارسين حالة العشق الدائمة لألوف وألوف ولدوا بالأمس… بالعام الماضى… بالقرن السابق… ولدوا على رملك الأصفر… على شاطئ نيلك… فى الاكواخ… المنازل… يأكلون الشهد… ينامون بغير عشاء… يقفون بقوائم الانتظار الطويلة بمعهد القلب… مستشفى 57357… يحلمون عند صخرة ليلى مراد بشاطئ الغرام… يسكنون صخرة المقطم أو يدفنون تحتها أحياء…
كل هؤلاء يا مصر وغيرهم ممن لم نذكرهم… ذقت المر فى ولادتهم مرتين: مرة حينما ولدوا بالجسد، ومرة أخرى عندما ولدوا ولادة ثانية فى الخامس والعشرين من يناير.
لماذا يناير يا مصر…؟ وهو أقسى شهور السنة برداً ورعداً ومطراً… ألعلك قصدت هذا؟ الثورة على العرى… الجوع… الاستكانة… النوم… التقوقع… فإذا ما أتاك الربيع تنشدين مع الشاعر.
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتبسما…
وعند حلول الصيف تتحررين وتنفضين عنك حرارة الظلم والمر…
آه يا مصر: لو أقبل الخريف وتساقطت معه كل الأوراق القديمة…
آه يا مصر: كم مخاضك متعسر… أشد ضراوة اليوم من أى زمن مضى…
مصر:
آه يا مصر…
لقد عشت ورأيت اليوم الذى يسقط فيه أولادك صرعى- شباب كما الورد- زهور لازالت لم تتفتح بعد…
آه يا مصر:
يا أبنائى الذين اتمخض بهم… أبنائى الشهداء الأحياء الذين اغتيلوا بأيدى الفقر والبطالة والمشكلات الطائفية… كم أرقتكم دوماً قضية البحث عن الذات… لعلكم تذكرون فى هذا السياق الذين هاجروا بعيداً عنى التماساً للعمل وبحثاً عن هذه الذات الضائعة أحياناً والقلقة فى أحيان كثيرة… وكم منهم ابتلعته الغربة وآخرون عادوا إلى فى صناديق الموتى…
آه يا مصر…
بنوك يا مصر الذين تمخضت بهم فى يوم من الأيام… اغتالونى… نهبوا قوتى ونهرى وحريتى… اغتيال أشد ضراوة وقسوة من ذلك الاغتيال الذى أصابنى على خط النار فى الحروب الماضية مجتمعة… فشتان بين أن يغتالك بنوك الذين تمخضت بهم وبين أن تنال منك يد الإعداء… لقد حزنت وسأمت لكننى ما تبرأت منهم أبداً… فقلب الأم لا يعرف غير الحب والتسامح… كنت أنتظر عودتهم لحضنى باكين نادمين… وقد خفف عنى بعض الشئ ما ردده أبنائى أيضاً…
بلادى وإن جارت على عزيزة وقومى وإن ضنوا على كرام
آه يا مصر…
يا أبنائى الذين أتمخض بهم… ها أنتم تغتالون بأيدى مصرية أيضاً، بأيدى أبنائى من ذات اللحم والدم… فتسقطون صرعى تتضرجون فى دماء البذل والعطاء… ضحايا نظام فاسد استشرى عدة عقود… لكنكم لن تكونون أبداً سوى شهداء أطهار كتب التاريخ أسماءكم بحروف من نور
آه يا مصر:
يا أبنائى الذين أتمخض بهم… رأيتكم تدفعون أغلى الاثمان… نسمة الحياة… عندما كان فريق آخر من أبنائى الشاردين يقف يرقب المشهد: كيف يتحرك؟ وإلام يؤول؟! من وما الذى وراؤه؟ وبينما كان الثوار الشهداء على حافة الموت ظهر هؤلاء من تلك الفئة التى لاتفتأ تشرئب أعناقها للالتصاق بالحياة على حساب من ناضلوا وقتلوا…
آه يا مصر…
يا أبنائى الذين أتمخض بهم… لن يغتصب حقكم فى التاريخ ويتوه دوركم الحقيقى فى هذا العمل الخالد النبيل بالقول بأنكم لم تكونوا سوى أداة تم استخدامها بنجاح فى وقت من الأوقات
آه يا مصر…
يا أبنائى الذين اتمخض بهم… خرجتم لتطهير واقعنا من براثن الفساد التى استشرى زمناً هذا مقداره دون تفكير فى أية استفادة أو تحقيق مصلحة… فالثورة خالصة لوجه الله…
آه يا مصر…
يا أبنائى الذين فى يوم من الأيام تمخضت ولا أزال اتمخض بكم… لازال ثراى ينبض بحرارة دمائكم الشاهدة على تاريخى منذ عهود بعيدة… لن أتحدث عما خضناه معاً من نضالات تندد بالمحتل… سأذكر فقط بحرب أكتوبر 1973… عندما رأيت ولدى التوأم أحمد ومينا يرفعان علمى على سيناء ويعبران القناة… عندما رأيتهما يحتضن أحدهما الآخر فى اللحظة الفارقة… لحظة الاستشهاد… عندما ضمهما ثراى ولم يصل عليهما فى المسجد أو فى الكنيسة… بل رأيت أولادى جميعاً يرفعون الصلاة من أجلهما يومى الجمعة والأحد…
آه يا مصر…
يا أبنائى الذين أتمخض بكم… لقد عشت ورأيت اليوم الذى تسقطون فيه صرعى بأيدى أشقائكم…
فماذا أقول إذن؟ أو بالحرى بماذا أصيح وأصرخ؟ هل أردد ما تردده الأمهات فى هذه التجارب المؤلمة؟ فأكشف رأسى وأقرع صدرى والتحف بالسواد وأصرخ بأعلى صوتى: ليتنى لم أحى ولم أر ما رأيته من خيانة ولم أعرف ما أعرفه مما فعلتموه بى وباشقائكم…
آه يا مصر… كم مخاضك متعسر… أشد ضراوة اليوم من أى زمن مضى!
أمى مصر…
حقا… يا أمى… كم مخاضك متعسر اليوم… أشد ضراوة من أى زمن مضى… تشددى وليتقوى رجاؤك فينا… أنظرى آلامك الماضية وكيف شفيت من جراحاتك بفعل الصبر والحب والإيمان… كان لابد من الوجع لمعرفة أساليب الراحة… كان لابد من الحرب لنوال أكاليل الغار… كان لابد من الموت لإدراك أفراح القيامة…
مصر:
يا أبنائى الذين اتمخض بهم… قولوا لأحمد… قولوا لمينا إننى أنتظركما عذراء نقية أرفل فى ثوبى الأبيض الطويل… يتدلى من عنقى باقة من الزهور الحمراء والبيضاء… وقد أمسكت يدى اليمنى بشمعة بيضاء واليسرى بغصن من الزيتون…
==
س.س
4 ديسمبر 2011