العمل.. حياة.. يشتاق كل منا أن يعمل ما يحب.. أن يلتحق بمهنة يهواها ويبدع في أدائه فيها.. أن يفني ذاته ويحقق ما يتمناه من طموح ويصل للنجاح في مجال هو الأقرب إلي قلبه وميوله.. حتي عندما يلتحق أبناؤنا بالتعليم العالي دائما ما ننصحهم بالالتحاق بكليات ومعاهد تتناسب وميولهم.. وتتناسب و فرص العرض والطلب بسوق العمل.. كل هذا في إطار النصح واتساع الاختيار وتوفر فرص عمل معقولة.. لكن.. وما أصعب كلمة لكن التي غالبا ما يأتي بعدها الإحساس بالحسرة والعجز.. يختلف الأمر كثيرا حينما يجبر المرء علي مهنة ربما لا يفقه فيها شيئا.. لكنه لابد أن يعمل حتي يأكل أيضا كما قال الكتاب المقدس.. لابد أن يعمل حتي ينفق علي نفسه وعلي ذويه.. أي عمل.. المهم أن يحصل في نهاية الشهر علي مقابل يسمح له بتوفير قوته وقوت بنيه.
هذا هو الحال الآن فسواء كان طالب العمل شابا يعول نفسه أو رجلا يعول أسرة كلاهما أصبح أمرا عسيرا بعد أن سدت معظم الأبواب ففرص العمل صارت محدودة.. والمحتاجون علي قارعة الطريق في انتظار التحول إلي جياع لا ملاذ لهم.. والفقراء لا يتمتعون بأية ميزة تقلل الفجوة بينهم وبين ما يتطلبه سوق العمل حاليا.. هذا ما دار بذهني حينما جاءت لي شابة خريجة هذا العام.. عمرها 21 سنة.. ليسانس آداب قسم اجتماع.. لها أخوان أصغر منها.. والدها عامل بسيط.. حضرت إلي مقر الجريدة تطلب مساعدتها في إيجاد عمل.. لها من عزة النفس ما لم ألمحه في كثيرين لهم نفس ظروفها.
سألتها: هل حصلتي علي أية دورات في الإنجليزية أو الكمبيوتر؟؟ أجابت نافية.. اسودت الدنيا في وجهي فالفتاة طيبة القلب وحسنة الخلق.. عزيزة النفس.. عرضت عليها مساعدة بسيطة لحين الوصول لأي عمل.. رفضت.. فبادرتها قائلة: تاخدي كورسات إنجليزي وكمبيوتر؟؟ أجابت: أيوة طبعا نفسي ثم صمتت.. وكان الصمت كما هو دائما أبلغ من أي كلام.. فأحوالها المادية لا تسمح لها بالإنفاق علي الدورات التعليمية التي نعلم جميعا كم هي مكلفة حتي لو كانت تتبع مراكز خيرية فتكفي تكلفة التنقل والملازم والوقت والتكلفة الشهرية للاشتراك ذلك بالإضافة إلي أنها سوف تحتاج جهاز كمبيوتر وطابعة واسكانر.. لتمارس وتطبق ما تتلقاه من تدريب عليه.. وهو أمر يحتاج بضعة آلاف من الجنيهات.
فهل نجد من يتفهم حال فتاة صغيرة قد يزج بها الفقر إلي عمل لا يتناسب مع مؤهلها أو نجدها مجرد بائعة في أحد محال الملابس الجاهزة.. وهذا ليس تقليلا من شأن هؤلاء البائعات وإنما محاولة لتسكين الناس كل فيما يناسب قدراته ومؤهله وظروفه من عمل.
لم تكن حالة هذه الفتاة فقط هي التي أثارت في ذهني تلك الأفكار حول من يعملون فيما لا يناسبهم وما لا يرضون عنه لمجرد أكل العيش.. إذ زارني رجل منذ أيام ليعرض مشكلته قائلا: أنا رجل من مواليد عام 1965, من سكان الجيزة.. كل خبرتي في مجال السياحة.. عملت كثيرا في فنادق خمسة نجوم بالقاهرة والغردقة وشرم الشيخ.. وبارات ومطاعم فاخرة.. لغتي الإنجليزية ممتازة.. خبرتي في هذا المجال أكثر من عشرين عام.. للأسف بعد ظروف الثورة تبدلت أحوال السياحة وتم الاستغناء عني ضمن كثيرين مثلي.. وركدت أحوال البلد.. وتشرد منا البعض من لم يقيموا وزنا ليوم كهذا اليوم الذي تنهار فيه السياحة المصرية.. والبعض الآخر الذي فكر وخطط لمستقبله وأجري حسبة وعقد اتفاقا مع الزمن.. ليؤمن نفسه ضد غدر الأيام كان له النصيب الأكبر من الأمان وعدم التشرد هو وأبنائه.. كنت أنا من الفريق الأول.. لم أعد العدة لتلك الأيام السوداء.. ولم أخطط لما هو مقبل.. فبعد أن استغنوا عني في عملي قمت بشراء تاكسي وأقوم حاليا بالعمل عليه وبسداد أقساطه لكن للأسف علي الاختيار أما الأقساط وأما متطلبات الحياة ومصاريف بيتي وأولادي.. فالقسط الشهري ضخم جدا يصل إلي ألف جنيه بخلاف التأمين وما تتطلبه السيارة من صيانة.. فماذا أفعل وأنا هكذا بلا عمل.. وبعد أن اشتريت السيارة التاكسي بتحويشة العمر أصبحت عبئا علي أكتافي بدلا من أن تحل لي مشكلتي.
أنا علي استعداد تام للعمل في أي مكان سياحي.. مطعم فندق.. بار.. وفي أي بلد.. القاهرة الغردقة العين السخنة شرم الشيخ.. طابا.. الأقصر.. أسوان.. رأس سدر.. أي مكان فقط أود أن أعمل في مجالي الذي أحبه وأستطيع أن أنجز فيه عملا أتعيش منه وأشعر أنه يتناسب مع خبرتي التي اكتسبتها طوال حياتي فهل هذا بكثير علي من يفعلون الخير ويقدمون ذواتهم جسورا بين الله والناس.
رد المحررة: يا عزيزي ويا عزيزتي خير الأمور ما قل و دل.. نعم إنه ليس بكثير علي الله ولا علي من يفعلون الخير لله.. ويقدمون ذواتهم جسورا بين الله و الناس.
تنويه مهم.. وتجارة لا تعرف الملائكة
عرضنا منذ أسابيع حالة تحت عنوات تجارة لا تعرف المائكة.. لامرأة تعاني من فشل كبدي وتحتاج لزرع فص كبد.. وكان العائق الوحيد أمام إجراء الجراحة هو المبلغ الطلوب الذي وصل إلي حوالي 350 ألف جنيه بكل ما يستتبع الجراحة ويسبقها من إجراءات وتحاليل وأدوية وفحوص لها وللمتبرع.. نجحنا في جمع مبلغ حوالي 40 ألف جنيه بالإضافة لما جمعه أهل الحالة وأصدقاؤها والكنيسة التابعة إليها في مدينة بورسعيد.. لو يتبق من المبلغ المطلوب سوي 35 ألف جنيه.. كان المستشفي المعالج علي استعداد للانتظار إلي ما بعد الجراحة لسداد هذا المبلغ.. واعتمدنا علي ذلك فقمنا بحجز مكان لها لإجراء الجراحة بالمستشفي.. ولأن عامل الوقت كان مهما جدا فللأسف في نفس الوقت الذي نجمع فيه التبرعات وندخل سباقا مع الزمن.. كان سن المتبرع قد تعدي الخامسة والأربعين من عمره وهو سن يتعذر معه إجراء الجراحة.. إذ رفض الطبيب المعالج إجراؤها – وهو الدكتور وحيد دوس الجراح الشهير.. الذي تبرع بمقابل الجراحة وسوف يقوم بها مجانا هو والطاقم المساعد له.. لكن كل ما نرجوه هو الوصول إلي متبرع جديد نجري له نفس الفحوص وتحاليل الأنسجة.. ليقوم بالتبرع بفص كبدي لإنقاذ حياة هذه السيدة التي لم تكمل الخمسين من عمرها بعد وتتألم في كل حين.. نرجو من كل من يقع بصره علي تلك السطور أن يساعدنا في الوصول إلي متبرع.. ونرجو أيضا من كل من يستطيع ويجد في نفسه شجاعة وصحة التبرع بفص من كبده أن يتقدم لنا لنكون جسرا يصل بيننا وبين إنقاذ امرأة يدنو الموت منها لحظة بعد أخري.. فالأمر أيضا متعلق بعامل الوقت الذي دائما ما يصب في غير صالح المريض.. ففي كل لحظة تمضي دون أن نصل إلي المتبرع.. يقطع الموت مسافاته بينه وبين هذه السيدة.. تري لو أن أحدا منا يعلم أن الموت قادم له فيمكث في انتظاره ولا يمكنه أن يمنعه ولا يمكنه أن يمنع نفسه عن الحسرة أيضا.. شعور مرير جدا أتمني أن ينقذنا منه متبرع يظهر في الوقت المناسب.
تنويه آخر.. حول القوقعة
كيرلس الطفل الأصم.. الذي نشرنا عنه العدد الماضي.. كيرلس مازال في الانتظار ومازلنا نتابع حملتنا في جمع التبرعات لزراعة القوقعة بأذنه ليسمع ويتكلم مثل الجميع.. كيرلس طفل لم يكمل الرابعة من عمره.. وإذا أكملها لن تصلح له زراعة قوقعة هو الآن يبلغ من العمر ثلاث سنوات وستة أشهر.. نحن في انتظار أن نجري له الجراحة في الوقت الذي يسمح بنجاحها.. وعلي يقين أن الله سوف يمد يديه لينقذه من هذا الصمت القاتل.