هي خطوة كان يجب أن تتخذ بعد أن تم تأجيلها عدة مرات, فأنا أصغر إخوتي وقد وصلت إلي سن الالتحاق بالمدرسة ولابد من السفر, وقد سبقني إخوتي الأكبر إلي السفر إلي بلدنا أسيوط للالتحاق بمدرسة الأمريكان في الداخلية وانتظموا في الدراسة وجاء الدور علي أنا الصغيرة الملتصقة بأمي ولا أريد أن أترك حضنها وأتمتع بدفء حنانها وحبها ورعايتها. وكان لابد من أن يحدث غير المرغوب فيه.
وكانت الوسيلة الوحيدة هي ركوب القطار والذهاب إلي البلد التي سمعت اسمها وحفظته دون أن أراها, باكية ومنزعجة وخائفة من السفر والفراق, ذهبت مع والدي إلي محطة القطار, لم تكن القطارات مثل قطارات هذه الأيام, لم يكن هناك التوربيني أو الإسباني والمكيف وغيرها من الأنواع الموجودة حاليا. ووصل القطار القشاش وقبل أن يرسو علي المحطة أسرع الركاب إلي الأبواب والشبابيك ليحتلوا الأماكن, ولأن الأبواب كلها كانت مزدحمة بالركاب وما يحملونه من أشياء فقد أدخلني أبي إلي القطار من شباك وحاول أن يجلسني علي أقرب مقعد ولكنني وجدت مرتبة قد ألقيت علي من الشباك وفوقها قفة ضخمة, ووجدت نفسي علي أرض القطار وفوقي هذه الأشياء وصرخت أنا الطفلة الصغيرة من الخوف وقد أصبحت غير قادرة علي التنفس, ولولا أن الركاب سمعوا صرختي المكتومة وأسرعوا برفع المرتبة وما فوقها من علي لانتهت حياتي في لحظات, ولكن الله سلم وكان أبي قد أفلح في أن يركب القطار من أحد أبواب العربة وأسرع يقتحم الناس حتي وصل إلي ورفعني علي كتفيه حماية لي مما حدث, وقد كرهت القطار وفزعت من ركوبه وتمنيت أن أعود إلي حضن أمي إلي الأمان والطمأنينة والحب.
وإلي يومنا هذا كلما كان هناك سفرا بالقطار تعود إلي ذاكرتي في لحظات حادثة القطار الأولي وأسرع ملهوفة إلي باب العربة لأقفز مذعورة إلي الداخل أبحث عن المقعد الخاص بي وأجلس وأتنفس الصعداء. وأنتظر قلقة لحظة الوصول لأستعد للنزول قبل أن يتحرك القطار ويغادر المحطة, أما صفارة القطار التي يطلقها عالية صارخة منذرة بتحرك القطار فمازال يرن صوتها في أذني ومعها ينقبض صدري معلنا لحظة الفراق عن أحبائي إلي مكان بعيد عنهم ولم يفارقني هذا الإحساس أبدا رغم توالي السنين.
هذا عن القطار, أما عن التحاقي بالمدرسة وانتظامي فيها فقد كان الأمر شاقا جدا لانفصالي عن أمي وحرماني منها واحتياجي إلي رعايتها وإحساسي بالوحدة رغم الأطفال الكثيرين وزميلاتي اللواتي في مثل عمري ويزاملوني في المدرسة, ويلعبون ويمرحون ويأتون إلي المدرسة سعداء لأنهم يعودون بعد انتهاء اليوم الدراسي إلي منازلهم ليعيشوا في كنف والديهم لا يزعجهم بعد أو فراق, أما أنا فأعود لأجد البيت خال من والدي وأحبائي به سيدة قريبة تؤنس وحدتي وترعاني بقدر طاقتها, وكنت أعد الأيام والليالي وأنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي أيام الدراسة لأعود إلي البلد التي ولدت وتربيت فيها وأنا أتمني أن تتواجد فيها مدرسة يمكن أن ألتحق بها وترحمني من السفر والغربة, نعم الغربة التي فرضت علي في سنوات كنت فيها مازلت صغيرة, أحن إلي أسرتي وتملأني الفرحة يوم العودة, ويملأني الأسي والحزن يوم يحن ميعاد العودة إلي الدراسة والوحدة.