يحثنا القديس بولس قائلا: المحبة حليمة مترفقة..
وهي تعذر كل شيء, وتصدق كل شيء, وترجو كل شيء, وتصبر علي كل شيء (1 كورنتوس 13: 4,7).
ذات يوم دعا الأب أبناءه الثلاثة, وقال لهم: لقد وصلت يا أبنائي إلي نهاية حياتي, لذلك أردت أن أوزع ثروتي بينكم, ثم قام بتقسيم ثروته بالعدل بينهم, كل واحد حسب نصيبه وقال لهم: لقد بقيت عندي جوهرة ثمينة وهي أغلي ما أملك, وسوف أمنحها لمن قام بأفضل عمل, إذا فليخبرني كل منكم عن أفضل أعماله, لأقرر من يستحقها.
فقال الأول: قد ذهبت إلي بلاد بعيدة, لا أعرف من سكانها سوي رجل غني قام بالترحيب بي وأكرمني بضيافته, ثم أودعني ماله وجميع مقتنياته دون كتابة إيصال أمانة, وعندما أراد أن يستردها, سلمت له المال والمقتنيات كما أعطاني إياها.
فقال الأب لابنه: قد عملت ما هو مطلوب منك, ولا شيء خارق, ولو أنك فعلت غير ذلك, لأصبحت غير أمين! وقال الثاني: أما أنا فقد عملت عملا أفضل, بينما كنت سائرا بجوار شاطئ البحر, وكانت الأمواج هائجة, فإذا بغلام يتخبط شمالا ويمينا وكان يصرخ لطلب النجدة, ولكن لا حياة لمن تنادي, كأن قلوب المارة تجمدت من شدة البرودة والبلادة, وللحال ألقيت بنفسي في الماء وأنقذته.
فأجاب الأب: إن عملك بطولي, ولكنه تصرف يجب أن يقوم به كل شخص ينبض في عروقه حب الإنسانية! وأخيرا تقدم الثالث قائلا: حدث أثناء تجولي يوما أن التقيت براع كان عدوي اللدود منذ طفولتي, وكان نائما بالقرب من هوة عميقة, ولو كان تحرك قليلا لقضي علي حياته, وفي هذه اللحظة تغلبت علي ميولي لروح الانتقام منه, فجذبته بلطف عن حافة الهوة, وهكذا استطعت أن أنجيه من موت محقق, فصاح الوالد فرحا وقال له: أنت الوحيد الذي يستحق هذه الجوهرة, فقد قمت بما يعجز عنه غالبية البشر, لأنك أنقذت حياة عدو لك.
لا يكفي أن نفعل الخير مع الأقارب والأصدقاء فقط, ولكن يجب علينا أن نتغلب علي روح العداوة التي بداخلنا, ونبدأ في معاملة الجميع سواسية مهما كانت درجة حبهم أو بغضهم لنا.
فإذا كان الله رحيما معنا, مهما أخطأنا في حقه, فلماذا لا نتعامل بالرحمة مع هؤلاء الذين يفعلون معنا الشر أو يكرهوننا؟ لذا يستطيع كل شخص منا أن يكتشف مواطن الرحمة في أعماق قلبه, ليعامل بها الآخرين, وهكذا يستطيع أن يساعدهم علي تغيير سلوكهم وتصرفاتهم, متجنبين كوارث عدة, كما أنه يساعدهم علي عدم الانغلاق علي ذاتهم بسبب ما يقابلونه من برودة وجفاء في المعاملة وسوء الظن.
مما لاشك فيه أنه لا سبيل إلي قتل العداوة الكامنة بداخل الإنسان, إلا بالحب والصفح وقبول الآخر, في البغض لا يولد سوي الكراهية والحقد والانتقام, التي تدفع الإنسان للتخلص من الغير, وعندما تتملكنا هذه الرذائل, تصير كالسرطان الذي ينهش فينا, ويقتلع من داخلنا كل العواطف الإنسانية, ويشوه كل ما نقوم به من أفعال, لأنها تطبعها بختم الكراهية وعدم قبول الآخر.
لذلك يجب أن نخطو للأمام ونتخلص من الظلام الذي يعمي قلوبنا, ونكتسب قبسا من نور الشمس وشعلة الحب لنستطيع احتواء الجميع, والتعامل بالرحمة والرأفة معهم, كما أننا ننتظر من الله الرحيم أن يعفو عما نقوم به من أخطاء في حقه وحق الناس, وكما أن حرارة الشمس تبدد الضباب عن وجه الأرض, فتدب الحيوية في الطبيعة وتنعش الخليقة, كذلك الرحمة مع النفوس تزيل عنها الخمول وتعيد إليها النشاط وحب الخير, وتبعدها عن الشر والفساد.
من منا لا يحتاج إلي غفران الله بسبب ضعفه البشري؟ لذلك فالصفح هو فضيلة النفوس النبيلة, والقلوب الرحيمة, بينما الانتقام هو شعور مرضي, يعتري النفوس الضعيفة والحقودة.
كما يجب أن نضع في الاعتبار بأن تصرف الآخرين, ليس قاعدة لسلوكنا معهم, ونقابل الحسنة بمثلها, ونكيل الصاع صاعين لمن يسيء إلينا, بل يجب أن نحب الجميع ونصفح عنهم, وهذا المبدأ النبيل تتخذه كل نفس شهمة, وقلب نبيل, يستحق من يعمل بموجبه, احترام ومحبة الناس له, فضلا عن رضا الله عنه.
كما يجب علينا ألا نحتقر أي شخص بسبب تصرفاته السيئة, لأن أكثر الناس شرا يحمل بين طيات نفسه شرارة إلهية من الممكن أن تلتهب في أي لحظة. فالإنسان الصالح يقبل الآخرين علي علاتهم, ويأخذ بيدهم للنهوض بهم ومساعدتهم للوصول إلي الهدف السامي.
ونختم بالقول المأثور: لنتمثل بالزهور لأنها تعطر حتي الأيدي التي تسحقها.