تُعتَبر الكنيسة المرقسية بالإسكندرية هي أقدم كنيسة في مصر وفي أفريقيا كلها. وعرفت باسم كنيسة “بوكاليا” ومكانها هو مكان الكاتدرائية المرقسية الحالية، وهذا المكان يتوسط الإسكندرية القديمة. وكانت الكنيسة المرقسية مقراً لبطريرك الكنيسة منذ جاء القديس مرقس ورشم إنيانوس الإسكافي ثاني بطريرك على مصر من بعد مارمرقس نفسه، واستمرت مقر الكرسي البابوي لمدة ألف عام، ثم انتقل المقر عدة مرات إلى أن أصبح الآن في أرض الأنبا رويس بالعباسية. والمُرَجَّح أن المكان الموجودة فيه هذه الكنيسة هو نفسه بيت إنيانوس الإسكافي وهو أول من نال نعمة الإيمان هو وأسرته على يد القديس مرقس وبعد أن تعمَّد هو وأهله وتحوَّل بيته إلى كنيسة.
تاريخ كنيسة مارمرقس:
وكان لوطني لقاء مع القس مكاريوس وهيب رزق – كاهن الكنيسة المرقسية بالإسكندرية والذي قال أن هذه الكنيسة هي أول كنيسة منزلية في مصر وإفريقيا واستُخدِمت للصلاة لأول مرة حوالي عام 62م مع دخول المسيحية إلى مصر عن طريق مارمرقس، حيث كانت الكنائس في بداية المسيحية كنائس منزلية، مثل عُلّية مارمرقس في أورشليم – وهو منزل مريم والدة مارمرقس حيث تم فيه تأسيس سر الإفخارستيا وفيه حل الروح القدس على التلاميذ وإليه لجأ بطرس الرسول بعد أن أخرجه الملاك من السجن.
وفي عام 68م استشهد القديس مرقس بالإسكندرية ووُضِع جسده الطاهر في الكنيسة، وقد تعرضت الكنيسة للتخريب وإعادة البناء لمرات عديدة على مدار القرون الطويلة وظل منزل مارمرقس يستعمل للصلاة حتى بداية القرن الرابع، وبعد ذلك تم هدمه وبناء كنيسة في موقعه، وفي عام 302م قبل استشهاد البابا بطرس خاتم الشهداء صلى صلاة أخيرة فوق قبر مارمرقس.. وقتها كانت الكنيسة عبارة عن مكان صغير للعبادة على ساحل الميناء الشرقي، وكان فيها جسد مارمرقس وبعض خلفائه الأطهار.
ثم في عام 321م تمّ توسيع هذه الكنيسة في عهد البابا أرشيلاوس الـ18. وفي عام 641م حدث تدمير شديد للكنيسة أثناء دخول العرب مصر. أما في عام 680م فقد قام البابا يوحنا السمنودي – البطريرك الأربعين، بإعادة بناء الكنيسة .وتمت محاولة سرقة رأس القديس مرقس فى عام 644م ولكن المحاولة لم تنجح ولكن في عام 828 م تم سرقة جسد مارمرقس بواسطة بحارة إيطاليين، ونُقل من الإسكندرية لمدينة البندقية (فينسيا) بإيطاليا.. وبَقيت رأس مارمرقس بالإسكندرية. وقد تم أعادة بناؤها للمرة الأولى في عهد البابا أغاثون – البابا رقم 39. وفيها تمت سيامة أريوس الهرطوقي قساً. فيها خرجت أحشاؤه قبل دخوله الكنيسة وقد دفن بالكنيسة 47 من بطاركة كرسي الإسكندرية ابتداء من مارمرقس – رقم1 حتى البابا شنودة الأول – رقم 55 . وأيضا بها تمت سيامة عدد من البطاركة.
و في عام 870 م كانت الكنيسة المرقسية وراء الباب الشرقي لمدينة الإسكندرية وكانت تعرف باسم “دير القديس مرقس” وكان يعيش بها الرهبان وكانت تحتوي على مدفن مارمرقس. و في عام 1219م هُدِمت الكنيسة أثناء الحروب الصليبية وتمّ إعادة البناء مرة أخرى. وفي عام 1350م كانت الكنيسة المرقسية على بعد ميلين (3,5 كيلومتر) شرق الإسكندرية وهذا يؤكد اضمحلال المدينة وانكماشها خلال العصور الوسطى. وفي عام 1527م يذكُر الرحالة “بيير بيلون دي مانز”، أن الكنيسة مازالت قائمة.
أما في العهد الأيوبي، هدم صلاح الدين الأيوبي الكنيسة المرقسية بحجة أن موقعها يعتبر حصناً عظيماً يمكن أن يستفيد به الصليبين لو هاجموا الإسكندرية، وقد حاول النصارى دفع ألفي دينار فدية عن الكنيسة ولكنه رفض وهُدمت الكنيسة بالفعل.
وأيضا تم هدم الكنيسة المرقسية مرة أخرى والمعبد اليهودي المواجه لها عن طريق الحملة الفرنسية عام 1798م خوفاً من استيلاء الإنجليز عليهما والتحصن بهما.
وقد تم تهريب أيقونة القديس مارمرقس وأيقونة للملاك ميخائيل ورفات الشهيد مارجرجس السكندري إلى كنيسة مارمرقس برشيد، وما زالوا هناك حتى اليوم
وفي عام 1805م أصدر محمد علي باشا فرمان بإعادة بناء الكنيسة. وتمّ بالفعل إعادة بناء الكنيسة وتدشينها بيد البابا بطرس الجاولي عام 1819م. ولكن هدمت الكنيسة في عام 1869م وتم إعادة بناؤها عام 1870م في عهد البابا ديمتريوس الثاني، بإشراف نيافة الأنبا مرقس مطران البحيرة.
وفي عام 1947م هدمت الكنيسة بعد أن انتشرت بها الشروخ وأصبحت قبابها آيلة للسقوط فقام البابا يوساب الثاني – رقم 115، بإعادة تشييد الكنيسة الحالية بصورتها الفخمة مستخدما الخرسانة المسلحة، وافتتحها في عيد مارمرقس في 30بابة عام1669للشهداء الموافق 9 نوفمبر عام 1952م.
شكل الكنيسة الحديثة:
الكنيسة قبل إعادة تشييدها عام 1952م، كان بها صحن الكنيسة وكان مغطى بقبة كبيرة تحملها الأعمدة الرخامية الستة الموجودة بواجهة الكنيسة الحالية، وكان بها مذبح واحد فقط وهو مذبح باسم مارمرقس أمامه حامل أيقونات رخامي جميل على الطراز البيزنطي، ومزود بما يزيد على ثلاثين أيقونة.. وهذا الحامل مع أيقوناته لا يزال قائمًا حتى اليوم.
ولكن في عام 1947م هدمت تلك الكنيسة وتم إعادة البناء وافتتاح الكنيسة الجديدة 1952م والكنيسة الجديدة أصبح بها ثلاثة مذابح: مارمرقس, مارجرجس والملاك ميخائيل… أما حامل الأيقونات فقد تمً تقطيعه بدِقّة وترقيمه لترميمه، ثم تركيبه بحرص مرة أخرى في مكانه وإعادة استخدامه. ولم تُهدَم المنارتان بل تم تقويتهما بواسطة قمصان خرسانية، مع تزيينهما بنقوش قبطية جميلة، وتم تركيب جرسين جديدين أُحضِرا خِصيصًا من إيطاليا – جرس لكل منارة.
و في عام 1990م قام مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث – ومع الزيادة المضطردة في عدد المصلين – بتوسيع الكنيسة حتى أصبحت على وضعها الحالي، فتضاعفت المساحة الكلية للكنيسة.
وتم نقل الأعمدة الرخامية الستة إلى المدخل الغربي الجديد للكنيسة، وعمل ست أيقونات قبطية جميلة بالفسيفساء في المدخل (السيدة العذراء- رئيس الملائكة ميخائيل- مارمرقس- مارجرجس)، وفي صحن الكنيسة (مارمينا- الأنبا أنطونيوس)
وتم بناء المقر البابوي الجديد الملحق بجوارها من الجهة البحرية، ويحتوي على مقر البطريرك ووكيله بالإسكندرية وقاعات الكلية الإكليركية.
المذابح الموجودة بالكنيسة:
الكنيسة بها اليوم سبعة مذابح لإقامة القداسات هي:
المذبح الأوسط باسم القديس مارمرقس، والمذبح القبلي باسم الشهيد مارجرجس الروماني، والمذبح البحري باسم الملاك ميخائيل، وقد تم تدشين هذه المذابح الثلاثة عام 1952م مع افتتاح الكنيسة في ذلك الوقت بيد البابا يوساب الثاني.
ويوجد مذبح علوي بالجهة القبلية باسم القديس مارمينا، وقد دشنه البابا كيرلس السادس عام 1963م. و أيضا مذبح علوي أخر بالجهة البحرية باسم الأنبا أنطونيوس، وقد اهتم بإنشائه عام 1975م القمص أنطونيوس ثابت – كاهن الكنيسة ووكيل البطريركية في ذلك الوقت. ويوجد مذبح أسفل مقصورة مارمرقس باسم الأنبا إبرآم الذي دفن فيه الشهيد القس يوحنا – كاهن كنيسة العذراء بالنوبارية والذي استشهد هو وزوجته وستة شمامسة. وموقعه أسفل المزار البحري للقديس مارمرقس بجوار مدفن المتنيح القمص شنودة عبد المسيح – كاهن الكنيسة ووكيل البطريركية الأسبق.
ويوجد أيضا مذبح كنيسة السيدة العذراء والقديس أبانوب النهيسي، أسفل الجزء الغربي من الكنيسة الذي تم توسيعه عام 1985- 1990م
بمقتنيات مباركة ورفات بعض القديسين بمقصورة مارمرقس:
يوجد بالكنيسة المرقسية جزء من حجر الجلجثة التي أقيم عليها صليب السيد المسيح بأورشليم، وجزء من خشبه صليب ربنا يسوع المسيح واردة من الفاتيكان، وجزء من حجر قبر العذراء والدة الإله، ورفات القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية، و رفات القديس إنيانوس البطريرك رقم 2، ورفات الشهيد مارجرجس الروماني، ورفات القديس الشهيد يوحنا المعمدان، ورفات شهداء الفيوم، و جذع – الجزء السفلي – أحد شهداء الفيوم، ورفات الأنبا صرابامون – الأسقف والشهيد، و رفات القديسان قزمان ودميان، ورفات القديس الأنبا أبوللو، ورفات الأم دولاجي وأولادها، ورفات القديس متاؤس الفاخوري، ورفات شهداء أخميم، ورفات شهداء كنيسة القديسين.
مزار الآباء البطاركة بالكنيسة:
يقع المزار في منتصف الكنيسة من الناحية الجنوبية، نجد مدخل المقبرة الأثرية الشهيرة التي تضم رفات الآباء بطاركة الكرسي السكندري في الألفية الأولى. فأثناء إعادة بناء الكنيسة وتوسيعها بين عامي 1950م و 1952م، تم عمل هذا المدفن للآباء البطاركة وتم تثبيت لوحة رخامية كبيرة بجانب المدخل مكتوب عليها أسماء الآباء البطاركة باللغات القبطية والعربية والإنجليزية، خلفاء القديس مرقس الرسول حتى منتصف القرن الحادي عشر (1066م) عندما نقل البابا خريستوذولوس مقر البطريركية إلى القاهرة.
ويقع حاليا باب هذا المزار داخل الكنيسة في منتصف الحائط القبلي أسفل المنارة القبلية.. والسلم ينزل إلى سرداب، تحت مستوى أرضية الكنيسة الحالية بحوالي سبعة أمتار، يؤدي إلى مدخل المغارة وهي مغلقة في نهايتها برخامة مثبتة بإحكام.
وفي عام 1970م وبمناسبة رجوع جزء من رفات مارمرقس إلى مصر عام 1968م، تم عمل رسم حائطي بالفسيفساء، عبارة عن أيقونة لمار مرقس فوق باب المزار، مع مجموعة متتالية من الأيقونات الموزاييك أيضًا في صحن المدخل، تروي قصة حياة القديس مرقس وكرازته واستشهاده، حتى عودة رفاته إلى مصر.
قنديل مارمرقس :
قنديل له قصة شيقة.. فقد حدث في أيام الخديوي عباس الأول عام 1850م عندما كان عائدًا من رحلته في البحر الأبيض المتوسط، قادمًا إلى الإسكندرية ضلت سفينته طريقها، وحاول القبطان أن يصل إلى الميناء دون جدوى، وأخيرًا لمح من بعيد ضوءًا خافتًا فاستبشر خيرًا، فأخذ يتتبعه حتى وصل إلى الشاطئ بسلام. وهناك ابتدأ يبحث عن مصدر هذا النور، ولشدة تعجبه وجد نفسه أمام الكنيسة المرقسية التي كانت في ذلك الوقت تشرف على البحر، وتطلَّع في مقصورة مارمرقس، واكتشف منبع النور الذي أرشد سفينته التائهة، وإذ به قنديل صغير مُعلَّق أمام أيقونة القديس، فاندهش وفرح، واعترافًا منه بجميل مارمرقس عليه، أصدر فرمانًا رسميًا بصرف مبلغ 271 مليمًا قيمة زيت القنديل المستهلك سنويًا وظلت محافظة الإسكندرية تصرف هذا المبلغ لهذا الغرض بنفس القيمة حتى سنة 1960م، ثم رُفِع المبلغ إلى 12 ضعفًا، أي جعلته يُصرَف شهريًا بعدما كان يصرف سنويًا. إلا أنها حوَّلَت غرض صرفه ابتداء من هذا التاريخ ليس من أجل زيت القنديل، بل معاشًا دائمًا باسم فقراء دير المرقسية ومازال هذا القنديل موجود بالكنيسة حتى الآن.
جسد مارمرقس:
ظل جسد القديس مارمرقس ورأسه معًا في صندوق واحد حتى سنة 64 م حتى دخول العرب مصر، وكان “المقوقس” هو البطريرك الملكي والحاكم المدني في نفس الوقت. فلما خربت واندلعت النيران في عدة كنائس وديارات ومن جملتها كنيسة مارمرقس، حدث أن حاول أحد البحارة أثناء الحريق سرقة رأس القديس، فخبأها سرًا في سفينة، ولما عزم عمرو بن العاص على مغادرة الميناء بجيشه لم تستطع تلك السفينة أن تتحرك رغم الجهود الكبيرة التى تمت لتحريك السفينة، وعندئذ اعترف البحار بجريمته وقام وأحضر الرأس المقدسة، وفي الحال تحركت المركب فلما رأى عمرو بن العاص هذه الآية العظيمة اندهش جدًا وأرسل في طلب بابا الإسكندرية الشرعي ليستلمها منه، وكان وقت ذاك هو الأنبا بنيامين الـ38 ، فوجده مختفيًا في الصعيد بسبب مطاردة الملكيين له ، فكتب له يستدعيه ويطمئنه، وعندما حضر استقبله وأكرمه إكرامًا عظيمًا، وسلمه الرأس المقدسة كما أعطاه عشرة آلاف دينار لبناء كنيسة عظيمة تليق بصاحب هذا الرأس، كما أمر بتسليمه كنائسه المغتصبة وكان ذلك في 30 بابه سنة 644 م.
سرقة الجسد مارمرقس:
ظل الرأس في حوزة الكنيسة المرقسية، بينما الجسد في حوزة الملكيين إلى أن تمت سرقته حوالي سنة 828 م، بيد بعض الفرنج من فينسيا الذين احتالوا على القائمين بحراسة الجسد من الروم الملكيين، وخبأوه في السفينة ثم غادروا الميناء قاصدين البندقية. وهناك استقبلهم أهلها بفرح شديد واحتفال مهيب وبنوا له كاتدرائية فخمة في بلدهم، وأودعوه فيها وأطلقوا عليه “الأسد المرقسي” كما اتخذوا أسد رمزًا لهم.
عودة الجسد:
وظل الجسد هناك حتى سنة 1968 م، حتى طالب المتنيح قداسة البابا كيرلس السادس بإعادة رفاته بمناسبة مرور تسعة عشر قرنًا على استشهاده. فعاد الكاروز متهللًا بعد غيبة طويلة تقدر بعشرة قرون تقريبًا، وكان البابا الراحل في مقدمة المستقبلين له في المطار.
و حمل البابا الصندوق الذي يحمل رفات القديس على كتفه في بهجة ووقار، وكان قد أعد له كاتدرائية فخمة، بل هي أكبر كاتدرائية في القطر – كاتدرائية القديس مرقس بالعباسية ووضع الجسد المقدس في مقصورة خاصة تحت الهيكل.
تقليد احتضان الرأس عند رسامة البطاركة
يذكر التاريخ تقليدا كان متبعا في رسامة الآباء البطاركة أن يخرجوا الرأس. وبعد أن يضعوا عليها الأطياب والحنوط يلفونها بلفائف غالية ويحتضنونها للتبرك بها وطلب شفاعة صاحبها والتعهد أمامه بالسير على خطاة في المحافظة على القطيع، وإرساء سبل التعليم المستقيم.
وظل هذا التقليد نافذ المفعول والرأس محفوظًا في كنيسته حتى القرن الحادي عشر. وللخوف على الرأس المقدسة من السرقة أخذت تنقل بين بيوت الأعيان فترة من الزمن، ولما ظهرت قيمتها للحكماء وأصبحت مجالا لسلب أموال الأقباط تحت التهديد بأخذها أو بيعها اضطرت الكنيسة في عهد البابا بطرس الـ104 ، أي في بداية القرن الثامن عشر أن تبطل طقس احتضان الرأس المقدس، ووضعتها مع جماجم أخرى في جرن من رخام في الجهة البحرية الشرقية بالكنيسة المرقسية الحالية حتى لا يمكن الاهتداء أو التعرف عليها ولا تمتد يد السارق إليها.