مقالات من زمان فات
نشر 1/2/1970
في آواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين حدثت حركة هجرة واسعة من الشام إلي الأمريكتين تعتبر من أهم حركات الهجرة في العصر الحديث.
ولهذه الهجرة أسباب عديدة, منها أن الشام تحت الحكم العثماني عاني كثيرا من الأحوال الاقتصادية السيئة وتعرض لشتي صفوف الظلم والاضطهاب والتنكيل, هذا إلي جانب الخلافات الطائفية التي كان يشعلها الاستعمار الأوروبي تمكينا لمطامعه ومصالحه الاستعمارية ويتلظي بنارها الشعب, كما تعقبت تركيا الحركات الفكرية والقومية الوليدة التي بدأت تظهر علي مسرح الحياة العربية بالشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين, فطاردت الأحرار والصحفيين, كما تعرضت الصحافة لأساليب الالغاء والايقاف والسجن لحروبها واصحابها.
هذه بأختصار الأسباب التي دفعت الي هذه الهجرة الضخمة إلي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية, هاجر من لبنان الكثيرون من أبنائه, وقد كان في نيتهم وهم يتركون الأهل والوطن المودة بعد أن يحققوا أوضاعا مادية إلي الهجرة, ولكن الكفاح في الوطن الجديد أستغرقهم فلم يعودوا, بل تزايد عدد المهاجرين بناء علي تشجيع من سبقوهم وأثروا الاستقرار.
وهناك.. كان لهم جرائدهم ومجلاتهم التي تصدر باللغة العربية التي تمسكوا بها وصدحوا بأنغامها وكان أن وةد ما سمي بأدب المهجر.
لقد حفلت صحافة المهجر العربية بالمقالات والقصائد الشعرية, وشاركت في القضايا القومية.
لقد ظهرت حركة أدبية قوية في أمريكا الشمالية من أعلامها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وايليا أبو ماضي وأمين الريحاني, وفي البرازيل بأمريكا الجنوبية ظهرت اسماء رشيد سالم الخودي والياس فرحات, ونعمه قازان, وهذه الاسماء علي سبيل المثال لا الحصر.
أن هذه الحركة الأدبية القوية في الأمريكتين كانت تعبيرا عن اعتزاز المهاجر بالوشائح التي تربطه بوطنه وتمسكه بقوميته, ولكن ما تلبث الأيام أن تدور وتنتهي حياة هؤلاء الرواد الأول.. ويأتي جيل جديد تهضمه الحياة الجديدة, وينسي الابناء لغتهم, واقصي ما يستطيعون هو التفكير في زيارة وطن الآباء والاجداد في جولة سياحية سريعة, أو تقديم بعض التبرعات.
ولكننا مازلنا نعيش في اصداء هذا الأدب الفني الذي وصلنا, مازلنا نتغني بمعانيه وجماله ومثالياته.. ونحس بصدقه وأصالته.
ويقول الدكتور كمال نشأت في دراسته عن شعر المهجر أن النأثر بالمسيحية ليس لأنهم فقط مسيحيون, بل لأن المهاجر الذي يترك وراءه الوطن والأهل يحس احساسا قويا بغربته, وهو علي الرغم من مسيحيته وعيشه بين مسيحيين يحس بهذه الغربة التي تدفعه إلي البحث عن سند روحي لا يجده إلا في كتابه المقدس الذي تناول الحياة ومشاكلها بروح المحبة والتعاطف والرحمة, وكان المهاجر يود لا شعوريا أن تسود هذا المجتمع الجديد الذي يعيش فيه كل هذه التعاليم الإنسانية من محبة وتراحم واخاء, والمهاجر لا يجد متنفسا في مجتمعه الجديد هذا إلا في كتابه المقدس الذي كانت تعاليمه الروحية ذات أثر بعيد في نفوس شعراء المهجر فظهرت في شعرهم روح الإنسانية والتعاطف والمحبة.
وفي كتاب النبي لجبران خليل جبران صورة صادقة لأثر الكتاب المقدس في الأدب المهجري, فجبران تخيل مدينة أسمها (أورفليس) علي وزن (أورشليم) أبحر اليها نبيه الذي واجه الناس بمشاكلهم, فكان أن حلها حلا مسيحيا قوامه المحبة والسلام, وكذلك فعل ميخائيل نعيمة في (زاد المعاد) فقد دعا إلي المثل الروحية التي دعا إليها الكتاب المقدس..
وتتردد كثيرا هذه النزعة الإنسانية, ويفيض رالحب من قلب الشاعر فيسع الناس جميعا فيقول ميخائيل نعيمه.
كحل اللهم عيني بشعاع من ضياك
كي تراك
واجعل اللهم قلبي واحة
تسقي القريب والغريب
ولنتأمل هذه المثالية التي تجعل العدو صديقا
يا عدوي اللدود
يا صديقي الودود
نحن لولا الحدود
ما عرفنا الحقود
قد كسرت القيود
هل كسرت القيود؟
أنني في الطريق
بأنتظار الرفيق
وطريقي قتاد
أنت فيها الورود
وياليت البشر في كل مكان يتخذون من المثاليت التي ينادي بها هذت الشاهعر هدانا وسلوكا.
السنا كلنا غرباء نشقي
بأرض أنبتت عطفا ورفقا
أبالشحناء والعدوان نرقي
إلي الاعزار والعليا ويبقي
لنا ذكر يذيع المجد عرفا
عدوي لو تعاشرني قليلا
لعدت كما عرفتك لي خليلا
الوطن الكبير..
لقد تعددت الجوانب التي تناولها الشعر في المهجر
فألي جانب المثل الروحية التي تدعو إلي التعاطف والمحبة والخير والتسامح, كانوا يتذاكرون وطنهم العربي, يعيشون في مشاكلنا واحداثه وتكدرهم آلامه, ويتميون له الخلاص من العلل التي تعوق تقدمه, لم ينسهم كفاحهم ما يمر بالشرق من محن واطماع, لم ينسهم توفيقهم واستقرارهم المادي ما يتعرض له الوطن العربي من ملمات ومؤامرات..
يقول رشيد الخوري شاعر القومية العربية.
أوليس في لبنان عرق نابض
أوليس في لبنان من متفان
لا تنكروها فالدم العربي قد
حليت أصالته عن النكران
وتضيق نفس الشاعر بمحنة الطائفية في الشام, فيدعو إلي التخلص منها, وتصبو نفسه إلي التماسك والوحدة:
ولكنني أصبو إلي عيد أمة
محررة الأعناق من رق أعجمي
إلي علم من نسج عيسي وأحمد
وأمنه في ظل أخت لمريم
هكذا كانت الحركة الأبية القويا في المهجر.. من وراء المحيط وصلت الينا أنغامها وتراتيلها ودعوتها الإصلاحية التي يمثلها أمين الريحاني الذي طاق بالعواصم العربية داء.
إلي الوحدة والاقبال علي الحياة الحديثة.. كان في المهاجرين الشاعر الإنسان الذي يدعو إلي الحب والأخا والتسامح والتعاطف, وكان فيها الشاعر القومي الذي يتغني بالعروبة وأمجادها يستنهض الهمم ويلهب الحماس كرشيد الخوري.