نحن أمام اختبار جديد في القارة السمراء في مواجهة الطموح الإسرائيلي بعيد المدي المتمثل في تدعيم موقفها في الدول الإفريقية فبعد أن كانت أهداف إسرائيل في بداية قيام الدولة فك الحصار العربي المضروب حولها أصبحت أهدافها أكثر خطورة وأهم من حيث النتائج علي الموقف العربي عامة ومصر علي وجه الخصوص. وفي كل الأحوال فإن هناك تراجعا غير مسبوق في الموقف العربي تجاه أفريقيا يقابله اهتمام متصاعد من قبل إسرائيل.
ونظرة علي التواجد الإسرائيلي في إفريقيا نلاحظ أن البدايات كانت من مدخل اقتصادي بحت تمثل في الخبرات الإسرائيلية المتمثلة في المجالات الزراعية التي تمثل العمود الفقري لاقتصادات العديد من الدول حيث قامت إسرائيل بتطوير شبكات الري والصرف واستنباط المحاصيل وتوفير الأدوية البيطرية وهي المجالات التي كانت تفتقر إليها هذه الدول… وتطورت هذه العلاقة إلي تقديم إسرائيل خبراتها في التدريب العسكري للجيوش الوليدة التي كانت تفتقر إلي الخبرة فضلا عن توفير السلاح وتقديم منح تدريبية في المؤسسات العسكرية الإسرائيلية -مع إقامة مشروعات مشتركة لاستخراج المعادن. وعلي الرغم من كل هذه الترتيبات فقد ظلت إسرائيل محدودة التأثير في القارة حيث كانت مصر آنذاك تتمتع بتأثير طاغ في إفريقيا من خلال دورها الرائد في احتضان حركات التحرر الوطني في القارة ومساندة العديد من دولها في الحصول علي استقلالها (احتضنت مصر بعض الوقت عددا من الثوار الأفارقة الذين قادوا فيما بعد حركة النضال ضد الاحتلال في بلادهم أمثال سامي أنجوما وبانريس لومومبا وغيرهم كثر) فضلا عن العلاقات المتميزة التي كانت تربط مصر بالقادة التاريخيين في القارة كالرئيس نكروما والرئيس سيكوتوري… ولكن من الملاحظ أن الوضع تغير تماما حاليا… بدأت أصابع إسرائيل تعبث بشدة داخل العمق الإفريقي استغلالا لعلاقاتها مع مصر والتي خلقت مبررا كبيرا لبعض الدول الإفريقية لإعادة علاقاتها المقطوعة مع إسرائيل منذ حرب 1967 فضلا عن إفساح المجال لدول أخري لإقامة علاقات مع إسرائيل ذلك في ظل غياب دور عربي فاعل علي كافة الصعد فباستثناء بعض المعونات الاقتصادية الضعيفة التي تقدمها بعض الدول الخليجية وصندوق مساعدات هزيل من جانب مصر فإن السمة الغالبة علي مجمل العلاقات العربية الإفريقية تشير إلي هشاشة وتدني هذه العلاقات… أما علي الصعيد السياسي فإن العرب غائبون تماما إلا من محاولات يقوم بها الرئيس الليبي وهي محاولات إعلامية إعلانية قبل أن تكون بمثابة محاولة جادة يمكن أن يكون لها دور مؤثر في تحجيم التمدد الإسرائيلي في القارة الإفريقية.
ويهدف الاهتمام الإسرائيلي الكبير بإفريقيا إلي ضمان الدعم السياسي للسياسات الإسرائيلية في المحافل والمنظمات الدولية, ومحاصرة الدور الإيراني المتنامي في القارة وإظهار إسرائيل في صورة البديل الكفء لدور عربي ودور إيراني متصاعد, وفتح أسواق هذه الدول للتقنيات الإسرائيلية خاصة في مجالات الزراعة والري ومشروعات البنية الأساسية والصناعة فضلا عن تقديم الخبرات الإسرائيلية فيما يتعلق بتسويق منتجات هذه الدول من الخارج. وكذلك توفير مستلزمات إسرائيل من السلع الوسيطة ومدخلات الإنتاج خاصة فيما يتعلق بالمعادن علي وجه الخصوص الماس الذي تعتبر إسرائيل إحدي أهم الدول التي نجحت في تشغيله إضافة إلي اليورانيوم الذي تحتاج إليه إسرائيل لتشغيل مفاعلاتها النووية أو كعنصر احتياط لتوفير الطاقة مستقبلا, والحصول علي عقود استخراج النفط والغاز خاصة وأن الشواهد تشير إلي أن إفريقيا تقوم علي مخزون ضخم من هذه الخامات خاصة وأن إسرائيل دولة مستوردة للطاقة وتأمل تأمين احتياجاتها المستقبلية… هذا بخلاف تشغيل معامل التكرير وصناعة البتروكيماويات والتي تمثل جزءا مهما في الصناعة الإسرائيلية.
وتنمية صادرات السلاح إلي هذه الدول خاصة وأن بعضها يعاني من ارتفاع وتيرة الحروب الأهلية وتزايد ظاهرة النزعات العرقية. ومحاصرة التيارات السلفية المتشددة والتي قد يكون وصولها للسلطة في غير صالح إسرائيل داخل بلداتها باعتبار أن هذه التيارات تري في إسرائيل دولة غاصبة عنصرية يتعين مقاطعتها وهي في هذا الصدد توحي للحكومات إمكانية تقديم الدعم بالسلاح والخبراء كي تتمكن من القضاء علي هذه الحركات. وأيضا إيجاد غطاء قانوني لأجهزة المخابرات (الموساد) وغيرها للتواجد في إفريقيا من خلال السفارات والتي يمكن لهذه الأجهزة من خلالها الوقوف علي كافة المتغيرات التي تحدث علي الطبيعة وتعني ذلك إمكانية التدخل والتحسب لأي تطورات تحمل تغييرا في الموقف ضد إسرائيل.
ونجحت إسرائيل في استقطاب بعض زعماء الحركات الانفصالية كما حدث مع إحدي الفصائل بدارفور التي افتتحت لها إسرائيل مكتبا في تل أبيب ولا يمكن بحال استبعاد اليد الإسرائيلية في دلتا نهر النيجر بنيجيريا أو في تغذية الخلافات بين إثيوبيا وإريتريا خاصة بعد ابتعاد إريتريا بعض الشئ عن إسرائيل.
ثم يأتي دور الطموح الإسرائيلي في الحصول علي نصيب من مياه النيل وهي في ذلك تملك من المغريات التي يمكن أن تنخدع بها دول حوض النيل والتي تتمثل كما ذكرنا فيما تقدمه من خدمات لهذه الدول وها هي إسرائيل من وراء ستار تحرض دول الحوض علي إعادة النظر في اتفاقيات مياه النيل ثم بعدها تكون طلباتها من دول الحوض مجابة.
كيف يتدارك العرب الموقف الإسرائيلي؟
أمام العرب فرصة تاريخية لتدارك التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا وتحجيمه وذلك من خلال تحرك سياسي ودعم اقتصادي… التحرك السياسي ينطوي علي تفعيل دور البعثات الدبلوماسية العربية في الدول الإفريقية فلم يعد كافيا أن يظل السفراء وأعضاء البعثات داخل القصور والمنتجعات دون أن يشاركوا في الحياة العامة من خلال التعاطي مع منظمات المجتمع المدني وتوسيع دوائر الحوار معها ومن خلال المنتدبات والمناسبات القومية بمعني أن يتحرك العرب إيجابيا لكسب ثقة وود الأفارقة وأن يكون للعرب دور في حل النزاعات العرقية والطائفية من خلال وساطات بين القوي المتنازعة وهذا لن يكون بدون الشق الآخر وهو الدعم والمساندة الاقتصادية, وزيادة حجم المعونات والهبات والمنح إلي الدول الإفريقية كمساهمة عربية في إقامة البنية التحتية في هذه الدول (كشق الطرق وخطوط المواصلات والاتصالات) فضلا عن المساهمة في مكافحة الأمراض المتوطنة وإنشاء المستشفيات والمدارس. وتخصيص مبالغ لإقراض هذه الدول بسعر فائدة ضئيل ويسدد علي آجال طويلة والعمل علي إقامة استثمارات مشتركة في مجالات الزراعة والتصنيع وهذا يعمل علي تحقيق فائدة للجانبين. وفتح أبواب الجامعات والمعاهد أمام الأفارقة وهذا التوجه بالذات يخلق ارتباطا عضويا وثقافيا بين الخريجين والعرب يمثل مخزونا من رجالات المستقبل المرتبطين بالدول التي درسوا وعاشوا فيها (كانت فرنسا رائدة في هذا التوجه إبان استعمارها لبعض الدولة الإفريقية). وزيادة حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والإفريقية وتعظيم التواجد العربي فيها من خلال إقامة المعارض الدولية والبعثات الترويجية.
أخيرا يجب أن نسلم بأن الأفارقة ليسوا في حاجة إلي جحافل الدعاة بقدر حاجتهم إلي قوافل الطعام… فهل يدرك العرب ذلك؟!
ولكن أين الدور المصري؟ مصر الدولة المحورية عربيا وإفريقيا عليها الدور الأكبر لمواجهة هذا التغلغل لما تمتلكه من حقائق الجغرافيا والتاريخ والكفاح المشترك والخبرات المتراكمة في التعامل مع إفريقيا, فضلا عن أهمية إفريقيا عموما ودول حوض النيل خاصة علي الأمن القومي المصري.