حين سافرت إلى القاهرة لأول مرة في حياتي كان عمري وقتها عشر سنوات، كان الجو داخل القطار شديد البرودة ولسعات الصقيع تلفح جسدي المرتعد من هدير عجلاته وهي تنهب القضبان ..
إنزلقت شيئا” فشيئا تحت شال أبي فاحتضنني في إحساس مرير بأن كل أغطية العالم غير قادرة على دفئي مثل حضن أبي ..
كان القطار بين الحين والحين يطلق صافرته الغليظة المدوية على نحو مفاجئ، مما كنت أشعر معها بخوف شديد مصحوبا” بحالة من الذعر نظرًا” لإرتباطها بإنقاذ الأرواح من الموت تحت عجلاته ، لكن كانت صافرته هذة المرة تعلن إقترابه من محطة الوصول ..
هبط أبي إلي رصيف (محطة مصر) بصعوبة بالغة بسبب تدافع الركاب وثقل ما كان يحمله من أمتعة علي كتفه، و ممسكًا “بيدي خوفًا” علي من السقوط تحت عجلات القطار ..
خرجنا من بوابة ( محطة مصر ) العملاقة حتي وصلنا الي موقف سيارات شبرا ..
أجلسني أبي على مقعد بجوار النافذة، كنت أتابع في سذاجة طفولية من نافذة الحافلة لوحات السيارات العابرة، لأتفاءل بأرقام بعضها، وأتشاءم من بعضها الآخر!
راعني ذلك المشهد الذي رأيته عندما شاهدت كلب أبيض ذو شعر حريري مجعد ينظر من خلف زجاج سيارة فخمة تقودها سيدة ثلاثينية جميلة كان يجلس علي ركبتيها، كانت تداعبه بأصابع ناعمة مطوقة بالذهب والماس وبابتسامة متأنقة وراء أسنان ناصعة البياض تمضغ العلكة ..
كان الكلب يتفرس وجوه الناس في سعادة واضحة على لسانه المدلدل من فمه وصيحات الحب تلاحقه من صاحبته وابنها الذي يجلس بجوارها ..
قارنت بين هذا الكلب المدلل وكلاب قريتنا المشردة الجائعة ، لحظتها عصفت بي التداعيات ودق سؤال في رأسي :
هل الكلاب مثل البشر رُفعت بعضها فوق بعض درجات وفضلت ؟؟!
إزداد شكي رغم كل ما درسته في الكتب الدينية والعلوم التطبيقية ..
لا تزال صورة أبي وهو يرتعد من البرد بعد أن لف جسدي النحيل بشاله الثقيل، وما عاناه من متاعب طوال الرحلة ،في حين يقبع الكلب بجوار صاحبته وابنها داخل سيارة فخمة ينعم بدفئها!
تخيلت أطفال قريتي وحرمانهم من التعليم والسكن والدفء والضمان والرعاية الصحية واللعب، وتذكرت المسئولين من باحثي حالات الفقر الذين يستنكرون تكاثر العشوائيات وما ينبت فيها من بذاءة وتفكك أسري وعنف واستعداد للجريمة وألفة مع أكوام القمامة وكلاب الشوارع!
تذكرت كل حالات البؤس والفقر وأنا أتابع سير السيارة الفخمة وبداخلها الكلب المدلل وصاحبته وابنها حين انحدرت بإتجاه منطقة راقية ثم اختفت بين المباني الشاهقة والفلل الأنيقة والقصور الفخمة، في حين الحافلة التي تقلنا واصلت سيرها نحو منطقة شبرا العشوائية، عندها لم أستطع حماية قلبي من ضربة في صميمه من المجهول الذي ينتظرني!