الميليسما في الالحان القبطية تعبر أيضاً عن الفكر والمفهوم الروحى الذي تعيشه الكنيسة أثناء أداء اللحن، فالألحان فى الكنيسة القبطية ليست مجرد نغمات موسيقية مرصوصة، بل هي نغمات هادفة، حتي أنه أحيانا تصمت الكلمات تماما لتبدأ النغمات وحدها فى تحمل مسئولية أن تشرح الفكر الروحى الذى تعيشه الكنيسة، مستعينة بالطقس ذاته فى عملية الشرح هذه. لأن الطقس أيضا فى الكنيسة القبطية ليس أصماً، لكنه نابضٌ بالحياة حاملٌ فكر الكنيسة بين ثناياه.
فمثلا لحن “أللى القربان ” وهو لحن قديم عريق – يؤكد قدمه الإشارة التى وردت عنه فى القانون رقم 40 للبابا أثناسيوس الرسولى- يقال بعد صلاة المزامير وقبل دورة الحمل، هذا اللحن يشارك الطقس فيه بالشرح مع النغمات.
فعندما يقف الكاهن فى باب الهيكل متجهاً إلى الشعب غرباً وبيده لفافة والشماس يقف عن يمينه وبيديه اليمنى لفافة بها قارورة تحمل عصير الكرمة، وبيده اليسرى شمعة لتضئ على الحمل (القربان) وقت إنتخابه، ثم يقدم له القربان ليختار منه الحمل وكذلك عصير الكرمة. فيختار الكاهن الحمل الذي بلا عيب وهو مواجهاً شعبه غرباً، ثم يتقدم إلى المذبح شرقاً فى خلوة مع الله يصلى فيها من أجل المؤمنين ويخص بالذكر منهم أسماء الذين قدموا القرابين والذين قُدمت عنهم من الأحياء والأموات. وفى أثناء ذلك يضع الحمل على يده اليسرى، ويبل أطراف أصابعه اليمنى بالماء ويمسح بها على الحمل إشارة الى العماد الطاهر للسيد المسيح فى نهر الاردن، وهنا تبدأ أصوات الشمامسة تنطلق بنغمات لحن “اللي القربان” فى أداء جماعى بدون مصاحبة الناقوس أو المثلث كل ذلك لرسم رحلة السيد المسيح من لحظة عماده فى نهر الأردن حتى قيامته المقدسة التى عندها يرنم الشعب كله “هلليلويا فاى بى بى”، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل فيه.
انسياب النغمات من أفواه الشمامسة فى مطلع لحن “أللى القربان” متئدة رزينة بإيقاعها الثلاثى المتمهل الذى يشير إلى خطوات السيد المسيح المباركة وهى تتحرك من الجليل إلى الأردن، والماء الذى بلل به الكاهن أصابعه اليمنى ليمسح الحمل الذى استقر على يده اليسرى ليجسد العماد المقدس، كل ذلك من نغمات وطقوس وضعته الكنيسة ليعبّر عن هذا الفكر وتلك المعانى رغم عدم وجود كلمات بالمرة. فصارت مسئولية شرح المعنى وتجسيد الفكر هى مسئولية نغمية طقسية بحتة، وبدون الميليسمالم يكن ممكنا تحقيقها على الإطلاق.
للميليسما قيمة موسيقية فعالة: للميليسما قيمة موسيقية كبيرة، ألهمت بعض مؤلفى الموسيقى خارج الكنيسة لكي يصيغون ألحاناً بها إطناب نغمى. ولعل قالب “الدور” يؤكد ذلك، إذ يتم حشو القسم الثانى من هذا “الدور” بالآهات، ويطلق عليه “الهنك” وهو مصطلح يطلق على أسلوب الغناء فى “الغصن الرئيسى للدور” عندما يتبادل المغنى والمنشدين الآهات. ولو لم تكن للميليسما هذه القيمة الموسيقية لما استخدمها المؤلفون الموسيقيون فى مؤلفاتهم الغنائية.
فما أكثر الأغانى التى تم حشوها بنغمات ميليسمية. ويعتبر “محمد عبد الوهاب” واحداً من بين كثيرين أدركوا قيمة هذه الميليسما وفهموا كيف تستخدمها الكنيسة ببراعة، فراحوا يستخدمونها مثلها. فعندما صاغ رائعته “مريت على بيت الحبايب” ووصل الى الجملة الإنشائية “وقفت لحظة” فإنه أراد أن يعبر بالميليسما عن أن هذه اللحظة التى مضت من عمره عندما مر على بيت الحبايب عندما كان الشوق والحنين يملأ قلبه وعقله وفكره الموسيقى، هذه اللحظة الـ “هنية”، مرت كلحظة بينما هى لم تكن كذلك، فقدماه قد تسمرتا أمام بيت الحبايب، فلم يبرحه حتى أنعش فؤاده وعينيه بهذا الجو المعبق برائحة الحبيب. لذلك رغم أن كلمة “وقفت” (هي كلمة عربية نطقها عبد الوهاب بالعامية) جميع حروفها ساكنة، ولا تسمح بالميليسما، وبالرغم من أن قواعد التلحين الأساسية الأولية هى عدم المد على حرف ساكن، إلا أن “عبد الوهاب” وجد نفسه مضطرا وآسفا أن يكسر هذه القواعد المتعارف عليها، ويضع ميليسما كثيفة على هذا الحرف الساكن الأول من كلمة “وقفت” فى تحدٍ هدفه التعبير عن أن هذه اللحظة الخاطفة كانت من الطول الشديد، إذ فيها استرجع كل ذكرياته مع الحبيب، بينما لا يوجد من الحبيب سوى الجو الذى كان او مازال يعيش فيه.
هذا هو الذي حدث فى “اللى القربان” الذي امتد على الحرف اللفظى الأول من الليلويا، إلا أن الكنيسة القبطية التى ألهمت عبد الوهاب بالفكر الميليسمى، لم تكسر القاعدة الموسيقية الشهيرة، إذ أن الحرف الأول من الليلويا هو حرف “ألفا”A فهو حرفاً متحركاً وليس ساكناً. وهناك أمثلة عديدة تبين كيف استخدم مشاهير الموسيقيين الميليسما فى أعمالهم الغنائية لقيمتها الموسيقية الرائعة.