نظم مركز “بى لمباس” للدرسات القبطية بكنيسة السيدة العذراء مريم بمهمشة، برئاسة وحضور نيافة الحبر الجليل الأنبا مارتيروس أسقف عام منطقة شرق السكة الحديد، اللقاء الشهري المعتاد، حيث استضاف المركز القمص اثناسيوس فهمى مدير مدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتية والوعظ بالإسكندرية، والذى القى محاضرته الهامة، تحت عنوان ” العلامة اوريجين وسيجال حول الحالة الاورجانية”، وذلك بحضور العديد من الباحثين والدكاترة والمهتمين بالتراث والفنون القبطية والعديد من الآباء الكهنة والخدام.
بدء اللقاء بصلاة أفتتاحية قادها نيافة الأنبا مارتيروس، ثم رحب بالحضور الكريم.
وقام المهندس اشرف موريس منسق اللقاءات بالمركز بالتنوية عن المحاضرة وتقديم القمص اثناسيوس فهمى مدير مدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتية والوعظ بالإسكندرية،والذى قدم فى بداية كلمته لمحة سريعة وهامة عن العلامة اوريجين واطلع الحضور على جوانب عديدة من حياته بقوله، “يعتبر اوريجين رجل فولاذى جهبذ معلم وعالم بارز صاحب حجة. وأحد اكثر مفكري العالم أصالة في العصور كلها ، اشتهر بالمواهب الغنية والتشعب في العلوم والموسوعية في المعرفة”.
كذلك اوغل فى استدراك المستورات وفسر المحجوب عن المدارك فى فهم سر الله ” تدبير الثالوث” .
ارويجين ابن شهيد بالكاد استطاعت امه ان تمنعه ، من اللحاق بأبيه ، حيث خبأت ملابسه والزمته بالبقاء في البيت .. شب على الثبات فى الايمان بالرغم من مصادرة كل ممتلكات ابيه . لكنه عاش روح الشهادة ، يسير حافي القدمين و لايرتدي سوي ثوب واحد . يفترش الارض في نومه ، معتبرا بان أقوال المخلص هي واجبة وقابلة التنفيذ ، وهي التي تحثنا علي ان لا نستعبد للأشياء التي في العالم . كذلك كان كثير من الموعوظين المنتظمين من التلمذة له صاروا شهداء بعد تحولهم من الوثنية الي المسيحية، و كان يسعي لمعونة هؤلاء المقبوض عليهم ليس فقط اثناء السجن ، بل وهم يساقون للتحقيق والمحاكمات وسماع الحكم بالموت، حيث كان ينتظرهم في الطرق والميادين ليثبتهم ويعزيهم ويقبلهم بالقبلة الطاهرة الرسولية.
وأضاف القمص اثناسيوس كتب العلامة اوريجين كتابه الشهير “الحث علي الاستشهاد”، و امتهن التعليم حتى ذاع صيته فصار مديرا لمدرسة الاسكندرية اللاهوتية الشهيرة “الديداسكالية” ، حيث معقل الثقافة اليونانية الرومانية ، والفلسفة اليونانية الهيلينية الحديثة في الاسكندرية ، التي كانت بيتا للعلم وللحياة الفكرية المتألقة.
وقد قاد “اوريجين “المدرسة التعليمية ” الديسقاليون” ، وبلغت فى عهده شهرة عالمية ضمن اهم مراكز العلوم القدسية فى التاريخ المسيحى ، والتي حفظت ريادتها فى وضعها لاول نظام للاهوت المسيحى المنهجى ، وفي منهجية التفسير الكتابى الرمزى . وبسبب التزام اوريجين بالخط الرمزي وقع في اخطاء تفسيرية كثيرة .
وعن هذة الاخطاء اوضح القمص اثناسيوس فهمى، لقد اخطا “العلامة اوريجين” بان سمح لفلسفة افلاطون ان تؤثر علي فكره اللاهوتي أكثر مما ظن هو في نفسه ، كما بالغ في استعماله الرمزية في التفسير الكتابي .لذلك كان موضع خلاف واختلاف ، سواء في حياته او بعد رحيله، فبالرغم من كونه ” محب للاتعاب كما وصفه ابينا ومعلمنا اثناسيوس الرسولي ، الا ان هناك الكثير من افكاره المتصارعة ، تسببت في مخاطر وجوالات وجدالات .
ومادمنا هنا نعرض لميراث اوريجانوس لابد ان نذكر كيف انه شكل وبلور بدايات الفلسفة المسيحية هادفاً مصالحة المسيحية مع الفلسفة ، مقيماً هذه الوحدة على اساس الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة، لذلك اتسع ميراث اوريجين ليحمل سمة التعدد والتنوع والعالمية ، فلمس اوتار كثيرة لثقافات متنوعة :
اولا: كعلامة ومفسر ومدافع ولاهوتى مسكونى ، وكأعظم معلم للكنيسة بعد الرسل ، فقد خصص سبعة كتبة من المختزلين كي يتناوبوا عليه ليملي عليهم شروحاته وتقسيراته لنسخها بخط جميل .
ثانيا: كمدير لمدرسة الاسكندرية فقد اظهر اوريجين عظمتها فى عهده ، كاشهر معهد عقلى منذ القرن الاول المسيحي . تلك الشهرة التي طبقت الافاق لا من اجل تعاليمه فقط ، لكن ايضا بسبب حياته الشخصية التقوية . فضم جموعا غفيرة من الهراطقة والفلاسفة الوثنيين ، حتي اشتدت ضده عداوة غير المؤمنين ، بسبب تعاليمه الالهية للجماهير الغفيرة عن الايمان المقدس . فكانوا يطاردونه بفرق كاملة من الجنود تحاصر البيت الذي يقيم فيه ، ولكنه كان ينتقل من بيت الي بيت ، محفوظا من العناية الالهية . وهو الذي تمني ان يكون ابن الكنيسة ، وتمني ايضا ان لايكون مؤسسا للهرطقات ، وعندما اعلن ان الحقيقة عنده هي ان لايحيد باي شكل من الأشكال عن العرف الكنسي الرسولي.
وقد عاش اوريجانوس السكندري كلمات المخلص واحتقر المجد البشرى ، وتلمذ كثيرين ليصيروا شهداء وكسب الفلاسفة بفلسفته ، شارحا الكتاب بدفتيه “العهد القديم والعهد الجديد” ، وفسر الاسرار تفسيراْ منهجياً حتى صار مؤسس الدراسة العملية للكتاب المقدس ، ولعلم نصوص الكتاب المقدس وهي اعمال ضخمة استغرقت حياته كلها . حاسبا ان الفلسفة مجرد ممهد للدراسات المسيحية وتعد مؤلفاته المصدر الاول عن طقس كنيسة الاسكندرية ونظام حياتها وعقيدتها .
وأشار القمص اثناسيوس فهمى للثيؤلوجيا عند العلامة اوريجين،فقال استخدم اوريجين لفظة ثيؤلوجيا ، على اعتبار انها تختلف وترتقى على الفلسفة ، إذ ان الثيؤلوجيا تبدأ حيث تنتهى الفلسفة ، لان اللاهوت هو الاعظم ، وهو اعلى من المنطق والاخلاقيات والفيزياء.
فالثيولوحيا تختلف جذريا عن كل العلوم ، لانها ملكة العلوم وفن الفنون ، حسبما دعاها اللاهوتيين القدامي
فموسي النبي يختلف تماما عن فلاسفة الاغريق ، لانه لاهوتي ونبي ومفسر لله ينقل مايريد الله ان يقوله،
ففى رد اوريجين على كلسس اوضح ان الفلسفات كلها لم تثبت انها مساوية للحق المستعلن عن الله . حتى افلاطون الذى تحدث عن الفضيلة والخير بأقتدر ؛ كان مجرد مرحلة اعدادية لمعرفة الله ، لانه لم يستطع ان يقود قرائه لتوقير الله ولا الي معرفته .
وقد قارن ايضا اوريجين بين كلمات السيد المسيح وبين الفلسفات اليونانية ، فالاولى تحمل سلطاناً الهياً يهب الحياة ويجدد القلوب والاذهان بالنعمة ، الامر الذى ينقص الثانية . ولعل كتابات العلامة اوريجين في كتاب” المبادئ” وفي كتاب “المتنوعات” نجد بها مقارنات عقدها بين تعليم المسيحية الحقانية اليقينية ، وتعاليم الفلاسفة المتغيرة ، وخرافات الاساطير وخداع الشيطان الشرير.
وعن “سر الله” قال القمص اثناسيوس فهمى اوضح العلامة اوريجين ” سر الله “، على اعتبار ان اللاهوت الصحيح يصلنا عن طريق الله وحده بالاستعلان ، وان اعظم واسمى وسيلة لهذا هو الكتاب المقدس . لذلك قام هو بشرح الاسفار الالهية انفاس الله وحقق نصوصها، بإرجاعها الي اصولها الاولي ، واجتهد بالبحث في معانيها ، مؤسسا علم تحقيق النصوص الكتابية ، في التوراة المسدسة ” الهكسابلا “السداسية ، والتساعية” ، بعد ان اضاف لها ثلاثة أعمدة أخري . كذلك انتاجه الغزير و ماكتبه من التعاليم , والمقتطفات و العظات و التفاسير والتعليقات علي الاسفار و الشذرات و السلاسل و الرسائل وقد تمسك اوريجين باصول كلمات النص الالهي مع نفاذه الي غني العمق اللاهوتي ، بروحانية وقداسة المعرفة المسيحية على اعتبار انها “سر” وقد وصف اوريجين معرفة الله بانها “الهية “و” لاهوتية”و”مقدسة”و” روئوية “و ” حقيقة” و” غير كاذبة”و “غير زائفة ” ، وهى ليست بحسب الجسد جسدانية.
.ونعمة معرفة الله تستعلن للانسان الطاهر المتواضع ، اما ذاك الضال الخاطيء غير التائب فيبقي في جهالة من جهة الله، و أكد اوريجين على ان معرفة الله هو حضنه الذى يجمع فيه كل المنشغلين به كما لو كانوا جواهره وذهبه الذى يحفظه فى حضنه .
وهذا نوع من الادراك والفهم الشخصى السرى الوجودى للمعرفة التى للورثة المستنيرين المدعويين ابناء ورعية واهل بيت الله مع القديسين ، الذين ينمون في درجات ترحال ومصاعد : الايمان وأعمال النسك وممارسة القداسة بتقديم الارادة والنية.
وعن معرفة سر الله عند اوريجين هى معرفة كيانية اختبارية وجودية ، معرفة “دياليكيتكتية ديالوجية” ، معرفة تذوق وخبرة وحوار ، بمعنى انها تتجه من الله نحو الانسان ، ومن الانسان نحو الله وهى تعطى فقط للمنشغلين بالله. الذين يسعون نحوه متجهين اليه في مواظبة علي الطلبة ، والعبادة ، والشكر ، والتضرع ، والتشفع.
ويضيف القمص اثناسيوس فهمى يرى العلامة اوريجين ان الانجيل ليس مجرد حروف مكتوبة ، لكنه هو المسيح نفسه ، وان غاية الايمان الوحيدة هى الدخول الى معرفة الاب بالابن فى الروح القدس ، وان كل حكمة هى من الله . فلا حياه حقيقة بعيده عن الله الطبيب والمعلم والمخلص الذى يقدم لنا ذاته كلبن فى طفولتنا وكخضروات فى ضعفاتنا وكغذاء قوى عندما ندرك اشراق.
مجده الالهى ” ربى – يسوعى – مخلصى – مسيحى ” وبذلك ننعم بنعمته وبره وسلامه وحقه وحكمته وتقديسه وخلاصه الثمين، كما يرى اوريجين ان الثيؤلوجيا هى البداية والذكصولوجيا هى الطريق والتريادولوجيا هى النهاية.
والغاية نبدء بمعرفة اللاهوت الثيولوجيا ونمجد ذكصولوجيا الله الذي اعلن لنا ذاته ونتحد في التريادولوجيا الثالوثية ” مركز تدبير خلاصنا ” . تلك التى نبلغها بالايمان والجهاد ضد الشهوات والتأمل وسلوك النسك ومحبة الصلاح وعشرة اللوغس الساكن فينا خلال الشركة المشتهاه معه ، ورفض الأهواء خلال نمو كلمته المزروعة فينا بعمل نعمته وعلى قدر استجابتنا يكون الاستحقاق . ادرك اوريجين ان الكارز يلزمه ان يكون رجل صلاة ، فعاش الصلاة وكتب عنها كتابا ،و كان يتوقف عن الكلام ويطلب من سامعيه الصلاة من اجله لينال فهماً افضل للنص الكتابى ، وهو الذى شهد جيروم عن كثره كتاباته ، بقوله من منا يقدر ان يقرأ كل ما كتبه !! فسر الارقام والاحداث الاولون والاسماء والرموز والمعانى والظواهر العميقة ، وفهم الكتاب المقدس كفن الفنون وعلم العلوم ، معتبراً ان وراء كل ما فى الكتاب هو سر لانه يحب الحق وسمو المعرفة العالية للكاملين وما وراء حجاب الظلال والرموز .
لقد تفوق اوريجين على نفسه وطرق ابواب لم يسبقه كاتب اليها ، واعتاد ان يعظ فى كل يوم رعيته محاكياً طريقه الربانيين التى عمدوا اليها فى الترجوم ، فبسط الكلام الالهى باسلوب شيق وشرح جذور الايمان المسيحى الاول وحياة الاسرار فى الوسط السكندرى ، فسار خلفاؤه الذين تعاقبوا على الرئاسة من بعده يسيرون على خطاه ، ويقتبسون عنه فى تعليمهم ، وقد لقبوه بأمير التعليم المسيحى الاوحد حسب وصف ” اغريغوريوس النيصى ” ، لقد كان نبوغه هذا مثل نقطة تحول فى الثيؤلوجيا الابائية “سر الله” وقد اعتبر انه ابو اللاهوت المنهجى لكنه فى نفس الوقت ابو الهرطقة ، بعد ان اهتم بجدية بالمعضلات التي واجهها اللاهوت في البدايات ، كي يفتح الطريق امام الشرح والتقنين ، نحو صب العقائد المسيحية في قوالب لغوية منهجية لعلم اللاهوت المسيحي.
واختتم اللقاء ببعض المداخلات الهامة من الباحثين والسادة الحضور، كما استمع وأجاب القمص اثناسيوس فهمى على العديد من الأسئلة والتعليقات والاستفسارات والمداخلات من الحضور، في جو من الحب والود ثم قدم نيافة الأنبا مارتيروس الشكر للحضور الكريم وللقمص القمص اثناسيوس فهمى على هذا اللقاء.
وبعد انتهاء المحاضرة استمع الحضور لكورال ثيؤطوكوس بقيادة الشاعر كمال سمير التابع لكنيسة العذراء مريم بمنطقة مهمشة، والذى يلقى تشجيع كبير من نيافة الانبا مارتيروس، حيث قدم ترنيمة من التراث القبطى.
يذكر أن مركز بي لمباس يختص بدراسة أنشطة التراث القبطي والرحلات العلمية وورش عمل، وتبنى أبحاث علمية جديدة لتدريب صغار الباحثين على الدراسة والبحث فى مجال القبطيات، بالإضافة إلى كورسات خاصة بدراسة اللغة اليونانية، لمدة ساعة ، ومناقشة نصف ساعة، وذلك بقاعة مجهزة خاصة بمقر نيافة الأنبا مارتيروس ويحاضر فيه نخبة من السادة الأساتذة المتخصصين في التراث القبطي، كالتاريخ والفن والآثار، والأدب القبطي ، والموسيقى القبطية، وتاريخ الرهبنة، والمخطوطات.