كانت ومازالت القيم الإنسانية موضع جدل محتدم لأسباب ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، والسبب أن القيم تبدو في نظر أصاحبها مطلقة، وهو ما يعني أنها في الإجمال نسبية حسب السياقات الثقافية المختلفة، ولأنها كذلك فقد كانت ومازالت موضع إشكال ثقافي وحضاري سواء تعلق الأمر بسؤال “الأنا والآخر” أو الاستقطاب الفكري بين الماضي والحاضر أو توترات العلاقة بين الأجيال، وحتى العلاقة بين الأنظمة الثقافية الفرعية داخل المجتمع الواحد. ولعل المثال الأبرز على توترات القيم هو ما شهدنهاه على مدار العقود الماضية في الموقف من المبادئ الكونية، وتحديدا حقوق الإنسان، حيث تم ويتم رفضها تحت مسميات متعددة كالحفاظ على الهوية والقيم “المحلية” أو حماية “الخصوصية الثقافية”. وقد لاحظنا أن التشدد فى خطاب القيم يحول، في كثير من الأحيان، من فرص التواصل والحوار على المستويين العالمى وحتى المحلى، أو أن يكون نوعا من الحوار التنميطى الذى ينطلق من الهوية ليعود إليها. وكثيرا ما يبدو الحوار وكأنه مباراة للحفاظ على الهوية أو محاولة لإعادة ترسيم الحدود بين الهويات، وذلك بغض النظر عن محتوى ما يتم التحاور بشأنه، والذي قد يكون موضع اتفاق إذا ما نزعنا عن أردية الهويات.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة في مجال التربية على حقوق الإنسان والمواطنة التعايش والحوار وبناء السلام، وهي متنوعة وثرية بلا شك، إلا أنها على ما يبدو لم تستفد بالقدر الكافي من التراث الثقافي والفكري والفني لمجتمعاتنا. وبالنظر إلى الكم الهائل من المواد التربوية في هذا الميدان، قد لا نجد إلا القليل منها الذى يرتكز على التراث الثقافة والفكري والفنى والمعماري لمجتمعاتنا. وإدماج هذا التراث الثقافي في المجال التربوي لا يعني طريقة أخرى للاحتماء بالهوية، بل على العكس فقد تكون محاولة لتجاوز هذا الإشكال من خلال استكشاف تعدد الهويات وتنوعها ومرونتها.
إن الانفتاح على التراث، لا يعني الإنغلاق على الحاضر، وحتى تتحقق هذه المعادلة، أتصور أن علينا نأخذ فى الاعتبار ثلاثة معايير رئيسية؛ أولها وأهمها: إدراك التنوع الفكرى في التراث، وهذا المعيار يجعلنا نتحرر من الانغلاق الهوياتى المحلي، وبالتالي إعادة إكتشاف الذات حيث يكون استدعاء التراث الثقافي، إذا احترمنا تنوعه، وسيلة للتواصل مع الذات قبل التواصل مع الآخر، إنه إعادة إكتشاف ذات أتصور أن خطاب الهويات المحافظ يطمس الكثير من جوانبها؛ أما المعيار الثاني، فيتمثل في القدرة على تنشيط الرباط بين متطلبات الحاضر والروافد التراثية، فالمسألة ليست عودة سلفية إلى الماضي، بل العكس تماما فالتراث هنا يجب أن يكون وسيلة، ضمن وسائل أخرى، لإصلاح الحاضر وبناء المستقبل؛ أما المعيار الثالث، فهو النظرة النقدية، فليس كل ما فى التراث كما ليس كل ما فى الحاضر، يدعم بالضرورة المبادئ الإنسانية المتعارف عليها والتى تحظى بشرعية كونية. ويمكن أن تقديم بعض الأمثلة التوضيحية فى هذا السياق.
فعلى سبيل المثال عندما نشرح مفهوم معاصر مثل “التمييز الإيجابى” والذى يعنى “إجراء طويل أو قصير المدى يتم استخدامه لتعزيز تكافوء الفرص وضمان حق الفئات الأقل حظا في الوصول إلى المناصب أو الموارد”. وفي ذلك يمكن الاستفادة من المأثور التراثى والذى يقول: “سئل أحد الصالحين: أي ولدك أحب إليك؟ قال: “الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفي، والغائب حتى يعود”. ففي هذا النص إشارات واضحة لمعنى التمييز الإيجابى. وعندما نتحدث عن الترابط والتكامل بين مكونات حقوق الإنسان كما جاء فى إعلان فيينا الشهير لحقوق الإنسان، فقد نجد فى نصوص إسلامية ومسيحية دالة تسهل شرح الفكرة، وأكثر من ذلك تقدم رسالة على المشترك بين الإسلام والمسيحية ليس فقط فى المعنى ولكن حتى فى البنية اللغوية. فقد تم استخدام أعضاء الجسد لإبراز الترابط والتكامل، فمسيحيا نجد هذا المعنى فى: “فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلْأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ ٱلْأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا”. (كُورِنْثُوسَ ٱلأُولَى 26:12-27)، وإسلاميا نقرأ المعنى ذاته فى الحديث الشريف”عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). ومثال آخر يتعلق بالتعاليم ذات الصلة بقبول الآخر واحترام الاختلاف، بدون شخصنة وهى مسألة تتعلق بمتطلبات الحوار كما تبرز في الأدبيات المعاصرة، وفي ذلك نقرأ: “حكى أن “يونس بن عبد الأعلى – أحد طلاب الإمام الشافعي – اختلف معه في مسألة أثناء إلقائه درساً في المسجد، فقام يونس بن الأعلى غاضباً، وترك الدرس، وذهب إلى بيته، فلما أقبل الليل، سمع يونس صوت طرق على باب منزله، فقال يونس: من بالباب؟ قال الطارق: محمد بن إدريس، قال يونس: فتفكرت في كل من كان اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي، قال: فلما فتحت الباب، فوجئت به، فقال الإمام الشافعي: يا يونس تجمعنا مئات المسائل، وتفرقنا مسألة. لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فأحياناً كسب القلوب أولى من كسب المواقف، ولا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يوماً ما…. دائماً اكره الخطأ، لكن لا تكره المخطئ، أبغض بكل قلبك المعصية، لكن سامح وارحم العاصي، انتقد القول، لكن احترم القائل، فإن مهمتنا هي أن نقضي على المرض، لا على المرضى”.
هذه بعض الأمثلة، وبالنظر إلى التراث من منظور أشمل من حيث مجالاته الدينية والفكرية والفنية والمعمارية وحتى الموروث الشعبى، أو من حيث روافده وحقبه التاريخية، لنا أن نتخيل كم الثراء الذى يمكن أن يمدنا به هذا التراث. إنه تراث تحفظه اللغة والآثار المادية، ويحتاج إلى عقول متفتحة لتوظفه بما يدعم كرامة الإنسان والصالح العام. وكما قال شاعرنا حافظ إبراهيم: “أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ .. فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي”.