من كل أنحاء العالم تركوا بصمة حقيقية في أشد الأوقات صعوبة وشدة وخوف غير مبالين بما قد ينتظرهم ناظرين للأمام وصوب أعينهم عمق رسالتهم الإنسانية .. أنهم الأطباء؛ الجنود الحقيقيون وقت الأزمات … أبطال وسط الأمراض والاوبئة..
نجيب محفوظ والكوليرا
في 1911 قام طبيب النساء والتوليد الدكتور نجيب باشا محفوظ بتوليد امرأة كانت تعاني من ولادة متعسرة، وحينها، قام الوالد بتسمية ابنه على اسم الطبيب تقديراً له بعد أن أنقذ حياته، ليصبح عندما يكبر الأديب المصري الشهير نجيب محفوظ الذي كان أول عربي ينال جائزة نوبل في الأدب.
قبل أن يتخرج نجيب باشا محفوظ فى كلية القصر العيني بالقاهرة عام 1902، حدث وباء الكوليرا في مصر، وتم إطلاق نداء عام لجميع طلبة كليات الطب في مصر للمساعدة، وحينها سافر نجيب إلى صعيد مصر ليتتبع المرض في قرية موشا بأسيوط، ويكتشف أنه يأتي من بئر منزل فلاح هناك، ويضع نهاية للقصة المأساوية وهو طالب في التاسعة عشرة من عمره، متغلباً على أكثر أطباء وزارة الصحة البريطانية خبرة.
بعد تخرجه وعمله لعامين في مستشفى السويس، عين في قسم التخدير في مستشفى القصر العيني، وحينها، بدأ في العمل في عيادة خارجية للنساء والتوليد فلم يكن هناك قسم للنساء والتوليد في القصر العيني، وكانت الولادة الوحيدة التى شهدها محفوظ أثناء دراسته انتهت بموت الأم والطفل معاً ومن هنا بدأ رسالته وأسس أول قسم نساء وتوليد في مصر.
لقب بـ”أبو طب النساء والتوليد في مصر”، وكان يساعد أي طبيب مريضته تعانى من ولادة متعسرة في البيت فكان يحضر مجرد الاتصال به مجاناً وبدون أي مال، ما جعله يحضر في 15 سنة 2000 ولادة في البيت.
الجدري وإدوارد جينر
فى أواخر القرن الثامن عشر نجح الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر (Edward Jenner) في اكتشاف لقاح لمرض الجدري الذي أنهك البشرية متسببا في وفاة ما لا يقل عن 400 ألف شخص سنويا بأوروبا وحدها. ولاحظ الطبيب بعد دراسة منهكة وتعب وجود مناعة ضد المرض لدى سيدة أصيبت في وقت سابق بحمى جدري البقر.
فقام بجمع عينات من جلد المصابة وحقنها بذراعي الطفل جيمس فيبس (James Phipps)، ولاحظ ظهور أعراض طفيفة شفي منها بعد بضعة أسابيع ثم حقن الطفل مرات عديدة بالجدري فلاحظ عدم إصابته بالمرض ليتأكد بذلك اكتسابه مناعة. ومن هنا أخذ الطبيب الإسباني فرانسيسكو خافيير دي بلميس (Francisco Javier de Balmis) على عاتقه مهمة إنقاذ الملايين بالمستعمرات الإسبانية من الجدري.
ولد بلميس سنة 1753 بمدينة (Alicante)الإسبانية. وانطلق نحو هافانا ومنها نحو مدينة مكسيكو حيث عمل كجراح بمستشفى سان جوان دي ديوس ودرس علوم النباتات وطرق استخدامها لصناعة الأدوية. مع عودته لوطنه، أصبح بلميس طبيبا لدى الملك الإسباني تشارلز الرابع (Charles IV) لتبدأ بذلك رحلته لإنقاذ البشرية بالقارة الأميركية وآسيا.
بعد جملة من المحادثات، أقنع بلميس الملك تشارلز الرابع بمساعدته ليبدأ حملة لتطعيم سكان المستعمرات الإسبانية ضد الجدري ووافق وهو متأثرا لوفاة ابنته الأميرة ماريا تيريزا (Maria Teresa) بمرض الجدري عن عمر 3 سنوات عام 1794 .
ومثلت مهمة بلميس أول حملة طبية وإنسانية دارت حول الأرض ونجح هذا الطبيب الإسباني ومجموعته في إنقاذ أعداد هائلة من البشر بكل من القارة الأميركية وآسيا.
ووصف إدوارد جينر حملة بلميس بأعظم مهمة خيرية وإنسانية ونبيلة عرفها التاريخ.
شلل الاطفال وجوناس إدوارد سالك
ولد سالك بمدينة نيويورك وهو الأكبر بين ثلاثة أبناء لعامل مهاجر يهودي روسي يعمل في صناعة الثياب وتمكن من سداد نفقات دراسته بالعمل في أوقات ما بعد الدراسة وبالحصول على المنح الدراسية تخرج في كلية الطب بجامعة نيويورك عام 1939م، وهناك أجرى أبحاثا على الفيروسات بمعمل توماس فرانسيس.
وفي عام 1942م انتقل جوناس إلى جامعة مشيجن في منحة لمواصلة البحث العلمي، وتدرج إلى أن بلغ درجة أستاذ مساعد في علم الوبائيات (علم دراسة الأوبئة والسيطرة عليها) وكان وقتها نصيب الولايات المتحدة وحدها عام 1916، 27,000 طفل مصاب بمرض شلل الأطفال، وكانت بداية الاهتمام على شكل حملات منظمة لمحاربة هذا المرض اللعين مع عيد ميلاد روزفلت 30 يناير 1938، وهو أشهر مريض بهذا المرض في العالم
حاول سالك في أواخر الأربعينات تطبيق أبحاثه على القرود، وكان لقاحه عبارة عن فيروس ميت، وفشل في أول تجاربه بعدها طور فى لقاحه وجعل الفيروس مضعفاً وليس ميتاً وعلى شكل نقط في الفم وليس حقناً، وخرج إكتشافه إلى النور. وفى عام 1953 كان سالك وزوجته وثلاثة من أبنائه من بين أوائل من تطعموا باللقاح. ليثبت للعالم أن اللقاح لاخطر منه، ولقد برهن على ذلك بتطعيم نفسه وأولاده وزوجته.
وتمت تجربة اللقاح فيما بعد في مرحلة التجريب الجماعي، على 1,830,000 من طلبة المدارس في عام 1954م، ثم أعلن عن سلامة اللقاح وقدرته الفعالة على الشفاء
وجدير بالذكر أن العالم الجليل سالك رفض تسجيل اسمه على براءة اختراعه لكي تستفيد البشرية كلها في علاج أطفالهم دون احتكار العلاج أو رفع ثمنه، رافضا بذلك مكاسب شخصية تقدر بالملايين فى سبيل رسالته الانسانية.
ملك الأمراض ورونالد روس
الملاريا كلمة إيطالية تعنى الهواء الفاسد، من هنا كان الاعتقاد أن الداء يُصيب من يستنشق هواء فاسد في البلدان المليئة بالمستنقعات وساد هذا الاعتقاد سنوات طويلة للمرض الذى كان يفتك بنحو مليون شخص سنويا
ولد «روس»فى هذه الاثناء وشاهد الكثيرين المُصابين بالمرض حتى أن والده أصيب بالملاريا، التي كان يُطلق عليها «ملك الأمراض» وحين كان يدرس في كلية الطب بلندن شخص «روس» حالة إحد المرضي الذي كان يشكو من الصداع وآلام العضلات والحمى بأنه يعانى من الملاريا، إلا أن التشخيص لاقى معارضة من أساتذته، فالمرض لا يُصيب إلا سكان البلدان الحارة وفي ذاك الوقت أثارت «الملاريا» اهتمام «رونالد روس» الذي تساءل عن الأسباب التي تجعل الملاريا حكرًا على البلدان الحارة. ولم يستسلم «روس» لتلك المعتقدات، وتساءل؛ إذا ما كان استنشاق الهواء يُسبب الإصابة؛ فلماذا يُصاب أشخاص دون آخرون؟
في عام 1883، حصل «روس» على منصب مكنه من الإقامة في بيت أنيق، شئ واحد كان مثار ازعاجه هو البعوض الذى كان يحوم في البيت بأعداد كبيرة، في جميع الغرف، ولا وسيلة مكافحة تُجدي نفعًا وراقب البعوض عن كثب
نشر روس أول بحوثه في هذا الموضوع عام ١٨٩٧ فى المجلة الطبية البريطانية في عددها الثاني بعنوان (حول بعض الخلايا الصبغية الغريبة التي وجدت في دم مصاب بمرض الملاريا) و أثبت فيه روس أن بعوضة الأنوفيلس هي التي يتم بواسطتها نقل مرض الملاريا.
وانتقل روس بعد ذلك إلى اكتشاف وتطوير طرق للقضاء على بعوضة الأنوفليس التي تنقل جرثومة الملاريا، وبذلك قام بتوفير إمكانية الوقاية من هذا المرض الخطير، ونشر روس كتابين حول هذا الموضوع نشرهما في لندن: الأول عام ١٩١٠ بعنوان الوقاية من الملاريا)، والثاني عام ١٩٢٨ بعنوان (دراسات حول مرض الملاريا). اشتهر روس أيضاً إلى جانب كونه طبيباً باحثاً بأنه قصصي وموسيقي وشاعر ومحرر صحفي أيضاً.
وفقاً لما جاء في تقرير الصحة العالمية، فإن معدلات الوفيات الناجمة عن الملاريا خفضت بنسبة 47% في الفترة الواقعة بين عامي 2000 و2013 مما يعني انخفاض عدد الأفراد الحاملين لعدوى المرض، تلك النسب جاءت عبر استخدام طُرق على رأسها مكافحة البعوض وتطهير مصادر المياه، وهي ثمرة جهد «روس» الشاق، فبدونه؛ لم يكن للعالم أن يعرف أن للبعوض أثرًا جانبيًا مُمُيتاً؛ وأن القضاء عليه يُشكل المسمار الأول في نعش ملك الأمراض.. الملاريا.