أصبح الكثير منا في كافة المراحل العمرية يهرب من شيء، من أمر نواجهه، كنا نعتقد أن المراهق فقط هو من يهرب من اضطرابات المرحلة نظراً للتغييرات الجسدية والنفسية، يهرب من المقارنة بأقرانه، من مشاعره المختلطة، من رغباته الجنسية غير المعلنة، فمع مرور العمر والنضج نستقر وتستقر حياتنا.. ولكن نجد الآن الجميع يهرب من شئ ما، من حقيقة واضحة إلى حقيقة موازية، نهرب من وجع بوجع آخر، من احتياج بإشباع مزيف، من رغبة برغبة تظهر أكثر قبولاً مجتمعياً.
رغم إننا خلقنا وتربينا أن نقبل ذواتنا ونختار طريقنا وقراراتنا، وندرك الهدف من حياتنا ونعيش ونتعايش مع ذلك، لكننا نجد أننا أصبحنا نعيش ونتعايش مع قرارتنا التي لم نختارها، وظروفنا غير المستقرة وأحوالنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المضطربة.
نتعايش ليس بالمواجهة أو المواءمة بل بالتواري والهرب، ونسيان الألم بألم أقل حدةً، ونسيان الفشل بفشل أقل وطأة، برفض العلاقات المشوهة بقبول علاقات أقل تشوهاً.
وجدنا أنفسنا جيل يسعى إلى مجهول لعله يرى فيه استقرار مع واقع لا يمكن أن يحصل عليه، يهرب إلى السكون والاستقرار المزيف والانتماء اللامنتمي لمجد أنفسنا أمام مرآه يشوبها عدم الصفاء والأتربة اللاصقة.
وإن كان يرجع ذلك إلى فقدان المعيار الواضح والاتزان والوضوح والرضا، فتخوفنا من المواجهة بعدما صرعتنا الحقيقة في حقبة مليئة بالمعايير المزدوجة والحقائق المغايرة جعلتنا نلجأ إلى الهروب، إلى علاقات موازية، حقائق منقوصة، ثوابت مهتزة، إيمان ضعيف، لعلنا نجد طرق موازية.
كما اخترعت الحكومات الموازية لاستنباط حلول غير مرئية لمشكلات تفاقمت، وتشدد ونقص نحتاج إلى ملئه حتى لا ننهار وتنهار حياتنا.
نتعجب من التشوه الأخلاقي لمجتمعاتنا ولا نستغرب التشوه الداخلي لذواتنا، لقد أصبحنا مجتمعات لا تعمل ولا تتحدث إلا ليلاً وفي الخفاء، أصبح الخوف من مواجهة ذواتنا هو الأصل والأساس، أصبح نور الشمس والانكشاف على الحقيقة يؤلمنا، أصبحنا نتفق على وأد النور والحقيقة والمواجهة، ولا نختلف على أن الهروب هو الحل.
لذا علينا مواجهة أنفسنا وإجابة السؤال.. من ماذا نهرب؟