تكلمنا في الأعداد الماضية عن صفاته من وجهة العمق والقوة, والقلب مع الله. ونتكلم اليوم عن صفة أخري وهي:
مفهوم الراحة والتعب
* هناك أنواع كثيرة من الراحة
راحة الجسد, وراحة النفس, وراحة الفكر, وراحة الضمير, وراحة الروح… والراحة من المشاكل. وهناك راحة حقيقية, وراحة زائفة, أو خاطئة..
وقد يوجد إنسان, راحته في هواية معينة, في لون من الرياضة مثلا, أو في أحد الفنون كالرسم أو الموسيقي أو الشعر, أو يجد راحته في القراءة, أو في تسلية ما كحل الألغاز… وليس في هذا كله شئ خاطئ, مادامت وسيلة سليمة. ولكنه مع ذلك ليس هو الراحة الحقيقية.
والبعض قد يجد راحته في المتعة مع الأصدقاء والأصحاب والمعارف, بروح الأسرة الواحدة, بأسلوب اجتماعي يتسامرون ويتسلون, أو يتعاونون معا في عمل عام. وهذا لون سليم من الراحة, مادام لا خطأ فيه. ولكنه مستوي معين من الراحة, يوجد ما هو أعلي منه.
* وهناك راحة زائفة, وراحة خاطئة:
لقد استراح آخاب الملك حينما استطاع أن يدبر مؤامرة ظالمة استولي بها علي حقل نابوت اليزرعيلي, وساعدته في ذلك زوجته إيزابل, إذ أرادت أن تحقق له رغبته, ولو بجملة من الخطايا… ولم يسترح الاثنان, إذ أرسل الله إيليا النبي إلي آخاب ليقول له في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت اليزرعيلي, تلحس الكلاب دمك أنت أيضا, 1مل 21:19. وهكذا حدث لزوجته أيضا 2مل 9:36.
وقد يظن إنسان أنه يريح نفسه بالتدخين أو بالخمر
أو بتعاطي بعض المخدرات.. وقد يصل الأمر به في كل ذلك إلي الإدمان. وهو لا يدري أن السجاير أو الخمر لا تحل له مشكلة, بل هي مشكلة أخري تضاف إلي مشاكله. والمخدرات إنما تتيهه عن نفسه فينسي مشاكله إلي حين. ولكن هذه المشاكل تظل باقية بلا حل, تضاف إليها مشكلة أخطر وهي تعاطي المخدرات..
وإنسان آخر قد يري راحته في تحقيق شهوة معينة:
كأن ينتقم لنفسه ممن أهانه أو أساء إليه, ويرد الكلمة بكلمتين, وعندئذ يستريح!! كذلك إن استطاع أن يهزم منافسه.. ولكها راحة زائفة وخاطئة..
كذلك قد يشعر براحة داخلية, من يحقق لنفسه شهوة في العظمة, أو القنية والامتلاك, أو شهوة جسدية, أو قضاء الوقت في لهو وعبث! أو ممارسة باقي عاداته الخاطئة.. ويكون في كل ذلك قد أهلك نفسه.
* مادام الأمر هكذا, فلنبحث عن الراحة الحقيقية وكيف تكون:
أول ذكر للراحة في الكتاب المقدس هو الآية التي تقول: فاستراح الله في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه, لأنه فيه استراح من كل عمله الذي عمل الله خالقا, تك 1:2, 3.. وهنا نجد راحة مصحوبة بالبركة والتقديس, وتقدم لنا مبدأ مهما وهو:
الراحة المقدسة في إتمام عمل صالح
لأن الله نظر إلي كل ما عمله, فإذا هو حسن جدا تك 1:21. فاستراح لذلك.. وبنفس الوضع نجد راحة أخري في إتمام عمل الفداء, حينما قال وهو علي الصليب قد أكمل, يو 19:30. وأيضا وجد راحته في قوله للآب:
العمل الذي أعطيتني, قد أكملته, يو 17:4.
الإنسان الروحي يستريح في أعماقه من الداخل, حينما يمكنه أن يكمل كل عمل صالح يعهد به إليه, وحينما يكمل خدمته. مثلما قال القديس بولس الرسول:
إني الآن أسكب سكيبا, ووقت انحلالي قد حضر. جاهدت الجهاد الحسن, أكملت السعي, حفظت الإيمان وأخيرا قد وضع لي إكليل البر, الذي يهبه لي في ذلك ليوم الديان العادل. 2تي 4:6-8.
لقد استراح السيد المسيح, حينما أكمل عمل الفداء, وأصعد من الجحيم الراقدين علي رجاء, وفتح لهم باب الفردوس. ثم هزم الموت بقيامته في فجر الأحد.
لهذا نقدس يوم الأحد, ونعتبره يوم الرب, يوم الراحة الحقيقية.
لأن فيه أراح الرب البشرية من عقوبة الخطية, ومن الموت.. وأصبح بقيامته باكورة الراقدين 1كو 15:20-23. وهناك نستريح في يوم الأحد.. كان يوم السبت هو اليوم الذي استراح فيه الله خالقا. ويوم الأحد هو الذي استراح فيه فاديا ومخلصا.
والراحة فيه ليست مجرد راحة الجسد, إنما راحة الروح أيضا.
فالإنسان الروحي يجد راحته في هذا اليوم, في بيت الله, في القداس الإلهي بألحانه وبركاته, وفي الاستماع إلي القراءات المقدسة والعظة وفي التناول من الأسرار الإلهية ويجد راحته أيضا فيما يقوم به من خدمة في يوم الرب هذا. وبهذا كله ترتاح روحه, ولا يشعر بتعب فيما يبذله من مجهود.. ويذكر ما قاله القديس يوحنا الرسول في مقدمة سفر الرؤيا:
كنت في الروح في يوم الرب. رؤ 1:10.
لاشك أنه حينما كان في الروح, كان يجد راحة قلبية تنسيه الضيقة, والنفي في جزيرة بطمس, وترشحه لتلك الرؤيا الإلهية العجيبة التي رآها…
الراحة في يوم الرب, ليس معناها الكسل أو الخمول, وليس معناها أن الإنسان لا يعمل أي عمل علي الإطلاق, كما كان يفهم الفريسيون من وصية الرب تث 5:13-14. فوصية الرب كانت خاصة بالامتناع عن العمل العالمي, وليس عن العمل الروحي.. إذن كان يحل عمل الخير في السبوت مت 12:12.
* أرواحنا تستريح في الله.. والله يستريح في أرواحنا
كما قال في المزمور ههنا موضع راحتي إلي أبد الأبد. ههنا أسكن لأني اشتهيته, مز 2:13-14. الله حقا يستريح في القلب الطاهر, يستريح في قديسيه, وأيضا يتمجد فيهم 2 تس1:10 والإنسان الروحي كما يرتاح الله فيه, كذلك:
الإنسان الروحي يجد راحته في إراحة الآخرين
إنه يشعر بلذة وراحة, كلما أراح غيره. يستريح قلبه وتستريح روحه في كل عمل محبة يقوم به نحو الآخرين.. يجد راحة قلبية, حينما ينقذ مسكينا, أو يحسن إلي فقير, أو يعطف علي يتيم, أو يحل مشكلة إنسان في ضيقة, أو يعزي حزينا… ويجد راحة في الخدمة الروحية التي يقوم بها, مهما كلفته من مجهود..
* راحة الروح تجعله لا يشعر بتعب الجسد
عامل الإطفاء مثلا, يخاطر بإلقاء نفسه وسط النار والدخان, ويشعر براحة كبيرة كلما أنقذ إنسانا من الحريق. وكذلك من يتعب لينقذ شخصا من الغرق.. كذلك من يبذل كل جهده, ليرد خاطئا عن طريق ضلاله, فينقذ نفسا من الموت, ويستر كثرة من الخطايا يع 5:20 كل تعبه في الافتقاد, وفي الحوار والإقناع وفي احتمال هذا الخاطئ, كل هذا التعب لا يشعر به, بل بالحري يجد فيه لذة إن أمكنه أن يخلص نفسه. وبهذا يشعر براحة كبيرة.
لاشك أن أكبر راحة شعر بها المسيح: كانت علي الصليب
وسط آلام الصلب المبرحة, كان يشعر براحة لا يعبر عنها, في تخليص البشرية من حكم الموت, وفي إرضاء العدل الإلهي, وفي بذل نفسه كمحرقة وذبيحة خطية لفداء البشر جميعا.. راحة مؤسسة علي الألم, الذي احتمله بسبب الحب.
ولعل نفس الراحة: شعر بها الشهداء, والقياس مع الفارق
وسط عذاباتهم وآلامهم, كانوا يشعرون براحة, إذ هم علي وشك الالتقاء بالرب في الفردوس, والتخلص من رباط الجسد والمادة, والانطلاق إلي كورة الأحياء ومجمع القديسين.
وهكذا المعترفون أيضا, وكل من احتمل آلاما لأجل المسيح. وهكذا قيل عن الآباء الرسل القديسين, بعد جلدهم وأما هم فذهبوا فرحين, لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه أع 5:41.
وهكذا الأب والأم يشعران براحة في كل تعبهما من أجل تربية أولادهما.
مهما بذلا من جهد جسدي في العناية بهؤلاء الأطفال, ومهما احتملا من تعب في سهر الليل, وفي العناية بصحة هؤلاء الأطفال ونظافتهم, وفي الاهتمام بتعليمهم والإنفاق عليهم. في كل ذلك يشعران براحة. كما تشعر الأم براحة وهي تحمل جنينا في أحشائها, لأن الله وهبها ابنا, مهما كانت متاعب الحمل والولادة.
* إن الراحة ليست هي مجرد راحة الجسد إنما هي راحة الضمير أيضا..
والضمير يرتاح حينما يؤدي رسالته, وحينما يقوم بواجبه ويكمله علي أحسن وجه, ولا يهتم إطلاقا بتعب جسده في سبيل إكمال عمله, وتحقيق هدفه الصالح. وكلما كانت آماله عالية, كلما تعب بالأكثر ووجد راحة في تعبه. وكما قال الشاعر:
كلما كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد
بعكس ذلك الذي يستريح جسديا, ويتعب ضميره
كالإنسان الذي يكسل ولا يذهب إلي الكنيسة أو إلي الخدمة, بحجة حاجة جسده إلي الراحة. هذا الإنسان يستريح جسده, ولكن ضميره يتعب. أو الخادم الذي يكسل في افتقاد خادميه, أو بحجة تعب الجسد يقصر من زيارة مريض, أو في الذهاب لتعزية حزين. هذا يريح جسده بينما يتعب ضميره.
كذلك التلميذ الذي لا يذاكر ويمتع جسده باللهو والراحة, تتعب نفسيته فيما بعد حينما يفشل في امتحاناته, ويتعب ضميره لتقصيره في واجباته.. وبالمثل كل إنسان يهمل عمله, ويركن إلي الراحة, أو لا يحظي برضي رؤسائه..
تعب الاحتمال أيضا فيه راحة للروح
تعب النفس في تحويل الخد الآخر, وفي مشي الميل الثاني, وفي الصبر علي من يخاصمك ويأخذ ثوبك فتترك له الرداء أيضا, وفي عدم مقاومة الشر مت 5:39-41. كل هذه الألوان من الاحتمال, حتي إن تعبت فيها النفس, ولو في أول الطريق, إلا أن الضمير يرتاح لأنه نفذ الوصية.
كذلك الذي يسهر الليل في الصلاة
ويقوم في نصف الليل, ليسبح الله علي أحكام عدله. وتسبق عيناه وقت السحر, ليتلو في جميع أقواله مز 119.. هذا تجد روحه راحة بكل تعب الجسد. وكذلك تجد راحة في جهاده ومصارعته لقوي الشر الروحية أف 6, والصبر إلي المنتهي حتي يخلص مت 24:13.
* ومع كل ذلك, لم يحرمنا الله من راحة الجسد
فمنحنا يوم السبت الأحد حاليا لنستريح فيه, جسديا وروحيا. لأن الله الذي خلق أجسادنا, يعرف أن هذا الجسد يحتاج إلي راحة يوم كل أسبوع. ولذلك قال الرب: السبت إنما جعل لأجل الإنسان. وليس الإنسان لأجل السبت, مر 2:27.
من حقك إذن, بل من واجبك أن تريح جسدك من الإرهاق, ومن المرض. وتعطيه حاجته من النوم. ولا تسبب له أمراضا بإهمالك في القواعد الصحية. وأيضا تعطيه كفايته من الغذاء. ولكن…
ولكن لا تكون راح جسدك علي حساب تعب روحك
أنت تقيت جسدك وتربيه أف 5:29. ولكن في نفس الوقت تقمع جسدك وتستعبده, 1كو 9:27 ولا تجعله يتمرد علي الروح.. تعطي الجسد غذاءه, ولا تعطيه شهواته. تعطيه النوم للراحة, ولكن توقظه للصلاة لكي تستريح الروح أيضا.
وهكذا فإن الإنسان الروحي يحفظ ميزان الراحة بين الجسد والروح.
كثير من الناس يرهقون أجسادهم أزيد من احتمالهم, فترهق أعصابهم أيضا, وقد يخطئون بسبب أعصابهم المرهقة, وتتعب أرواحهم بذلك والأمر يحتاج إلي حكمة وإفراز.
* وفي إراحة جسدك, أبعد عنه الأخطاء النفسية التي تتعبه.
فالغضب والنرفزة من أمراض النفس, ويتعب الجسد أيضا.. وكذلك الاضطراب والقلق وحمل الهم والكآبة الزائدة, كلها متاعب في النفس, تسبب تعبا للجسد أيضا. وقد قال الرب في علاج ذلك لا تهتموا بما للغد, فإن الغد يهتم بما لنفسه, مت 6:34. لذلك فالإنسان الروحي, الذي يكون قلبه مرتاحا ونفسه في سلام, بحياة الإيمان والتسليم.. هذا أيضا براحة روحه يريح جسده أيضا من أمراض كثيرة..
والإنسان الذي تتعب نفسه بالصراع الداخلي, يتعب جسده أيضا.
فحالة الانقسام الداخلي التي يعانيها, وما يصحبها من أفكار ضاغطة وأفكار متناقضة هذا يتعب جسده بالتوتر الفكري.. وكذلك الذي يرهقه الحزن المفرط, بتعب نفسه, يتعب جسده أيضا.. أما الإنسان الروحي, الذي تسير روحه وأفكاره ومشاعره في خط واحد ويرتاح روحا ونفسا, هذا يرتاح جسده أيضا.
الإنسان الروحي, كما يريح نفسه وجسده, كذلك بالأكثر يريح روحه.
يريحها من الخطايا, ومن العادات السيئة والطباع الرديئة. ويريحها من الشهوات ومن الاستسلام للإغراءات, ويريحها من مقاومة الجسد لها, الجسد الذي يشهي ضد الروح غل 5:16, 17. ويريحها بالانتصار علي حروب الشياطين, ومقاومتهم راسخا في الإيمان 1بط 5:9. ويريح روحه أيضا بمنحها الغذاء الروحي الذي يقويها, ويقربها إلي الله ويعمل محبته فيها..
ويريح روحه, بأن لا يعمل شيئا يتعب ضميره.
وتستريح روحه في طاعة الله. ويستريح الله بطاعته
إن الله يستريح في القلوب المؤمنة به, المحبة له, التي تصنع مشيئته, وتتمم إرادته, كالملائكة الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه, مز 103:20.
الإنسان الروحي, تستريح روحه في شركة الروح القدس 2كو 13:14. فلا يعمل عملا إلا إذا كان روح الله يشترك معه فيه. الروح تستريح حينما تقول لله في كل عمل لتكن مشيئتك. فبهذا تريح وتستريح. ما أجمل ما قيل عن موسي النبي إنه صنع كل شئ حسب المثال الذي أراه الرب إياه علي الجبل, عب 8:5.
ننتقل إلي النقطة الأخيرة وهي: كيف يستريح الإنسان
إذا استراح الإنسان من الداخل, يستريح من الخارج أيضا. وأن تعب داخله, لابد أن يظهر عليه هذاالتعب من الخارج.. نظرته إلي الأمور هي التي تتعبه. لذلك قال القديس بولس الرسول: تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم, رو 12:2.
يجب أن يقتنع الإنسان بفعل الخير, فتصير تصرفاته خطيرة.
يجب أن يستريح قلبه تماما للسلوك بالروح. ولا توجد شهوة خاطئة تتعب الإرادة.
وكما قال القديس ذهبي الفم لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانا, ما لم يؤذ هذا الإنسان نفسه. الإنسان المستريح في الداخل, لا يتعبه أي سبب من الخارج, وهو أيضا لا يتعب أحدا بعكس الإنسان غير الروحي, الذي طبعه النكد, ونفسيته غير مستريحة, فأقل الأسباب تتعبه, ويستقبلها هو بتعب.
التعب في داخله, وليس بسبب الأسباب الخارجية
لأن الروحيين أحاطت بهم من الخارج أسباب متعبة كثيرة ومع ذلك لم يتعبوا. وأخيرا هل تظن أن موضوع الراحة والتعب قد انتهي؟! كلا, فله بقية في العدد المقبل إن شاء الله, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.