هل مقدر لجيلي من كبار السن أن يغلق علي نفسه حارة الذكريات ويجتر أوراق الزمن الجميل حتي لا يصاب بالأسي والإحباط كلما اصطدم بواقع قديم عزيز يتهرأ ويخبو بريقه تحت دعاوي التطوير؟!!.. لكن حتي إذا ارتضينا الانعزال في حارة الذكريات وانفصلنا عن الواقع, يظل صوت داخلنا يصرخ: وما ذنب أولادنا وأحفادنا الذين يتم تجريف تاريخهم وحرمانهم من عبق ورحيق بلدهم؟!!
أقول ذلك لأنه بينما تنشر وطني داخل هذا العدد تحقيقا توثيقيا بعنوان قصر المنتزه.. تحفة فنية معمارية تعانق مياه الإسكندرية بمناسبة مرور 130 عاما علي إنشائه, هذا التحقيق الذي يسجل ويوثق حشدا من أجمل الإنجازات التي تمت في هذا المكان وأورثته ملامح عريقة يندمج فيها التاريخ مع العمارة مع الطبيعة.. تصدمنا شهادات تسجل معايير ما يقال إنه تطوير لحق بالمكان ليفسد ميراث الزمن الجميل.
وكما تعودت, دعوني في استعراضي لهذه القضية أن أبدأ بالإيجابيات.. لأسجل التاريخ العريق لقصر المنتزه من خلال الملامح الآتية:
** نحو عام 1890 حينما كان الخديوي عباس حلمي الثاني يتنزه علي شاطئ الإسكندرية وقع بصره علي منطقة علي الطرف الشرقي للمدينة علي ساحل البحر, انبهر بجمالها فقرر أن يبني فيها لنفسه قصرا للاصطياف وأطلق عليها اسم المنتزه.. هي منطقة تقع علي ربوة مرتفعة عن البحر بمقدار 16 مترا وهبتها الطبيعة ميزات لا مثيل لها, تضم منخفضا يحتضن قطعان الغزلان وحديقة غناء ثرية بمجموعات شجرية ونباتية فريدة.
** أشرف الخديوي بنفسه علي بناء قصره في ذلك المكان, وكان ذلك عام 1892 وجاء تصميمه خلابا بطرازه المعماري الفريد المحاط بالحدائق والتماثيل, هذا الذي شهد إضافات متتالية من قبل الأسر الملكية التي تعاقبت من بعده علي عرش مصر.
** تبلغ مساحة الحدائق المحيطة بالقصر 350 فدانا منها 80 فدانا حدائق للفاكهة و45 فدانا حدائق للزهور و125 فدانا أشجار غابات, كما تضم منحلا للعسل ومعملا للألبان وحظائر للكلاب ومزرعة للطيور.
** أوكل الخديوي عباس حلمي الثاني إلي مهندس يوناني بناء السلاملك لاستقبال واجتماع الرجال, ثم أنشأ كشك الموسيقي وسط الحدائق حيث كانت الفرق الموسيقية تعزف الألحان العالمية إبان الحفلات الخديوية الصيفية.
** في عام 1928 أنشأ الملك فؤاد الأول قصر الحرملك ليخصص لإقامة أفراد الأسرة الملكية خلال فصل الصيف, والحرملك كلمة تركية تعني مكان الحريم حفاظا علي حرمتهن وخصوصيتهن… كما أنشأ الملك فؤاد الأول عام 1934 الصوبة الملكية التي تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف متر مربع وتحوي مجموعة من أندر النباتات الاستوائية.
** أضاف الملك فاروق برج الساعة وكشك الشاي المطل علي شاطئ البحر بالإضافة إلي الجسر الذي يربط الشاطئ بجزيرة الفنار الذي يرشد السفن واليخوت إلي خليج المنتزه الذي كان يرسو فيه يخت الملك الذي حمل اسم المحروسة.
هذه باقة من ملامح وتاريخ المنتزه التي أتيحت للمصريين للتعرف عليها والاستمتاع بها بعد ثورة 23 يوليو 1952 وخاصة مجموعة شواطئها التي حملت أسماء عايدة وكليوباترا وفينيسيا وسميراميس, بالإضافة إلي الشاطئ الخاص بفندق فلسطين الذي أنشأته حكومات ما بعد الثورة لاستضافة القمة العربية الثانية في سبتمبر 1964… ثم جاء مشروع التطوير… وما أدراك بالتطوير… ودعوني أنقل ما وصلني من شهادة في هذا الخصوص بلا تشويه أو تجميل!!!.. وباللهجة العامية:
*** إمبارح رحت المنتزه باي بعد الإعلان عن افتتاح أعمال التطوير.. رسم الدخول علي البوابة الخارجية 25 جنيه للفرد.. الدخول بالسيارة إجباري في اتجاه جراج السيارات عشان تدفع 50 جنيه رسوم الانتظار.. عايز تروح الشاطئ تنتظر دورك في جولف كار طابور طويل ولما ييجي دورك تدفع 20 جنيه للفرد… نسيت أقولكم إن التطوير أضاف 3 مباني جراجات ضخمة للسيارات احتلت نحو تلت مساحة الحدائق وعكننت علي الزوار وحملتهم رسوم بدون أي داعي… ركبنا الجولف كار وتوقعنا نزهة في حدائق المنتزه إللي كنا نعرفها لكن هي فين؟.. أشجار المنتزه الشهيرة المتبقية حالتها سيئة وتفتقر إلي الصيانة والتقليم.. مخلفات بناء ونجيلة محروقة في كل مكان.. ضاعت روح الانفتاح والانسجام والسير في ظلال الأشجار نتيجة إخلاء المساحات المطلوبة للمباني.. وصلنا الشاطئ لتستقبلنا كتيبة مسئولة عن تنظيم الدخول تطلب 125 جنيه للفرد مقابل كرسي وشمسية مخصصة للمجموعة.. الشاطئ جميل والبحر مفتوح وفيه حاجز أمواج, لكن الإدارة أفضل ما فيها اليونيفورم الراقي إللي أفرادها لابسينه لكنهم يفتقرون إلي الحرفية وحسن المعاملة.. الحمامات وأماكن تغيير الملابس مزدحمة بالمترددين لقلة عددها وتفتقر إلي النظافة الدورية طوال اليوم.. في آخر اليوم عايزين نرجع للجراج لأخذ السيارة والمغادرة فوجئنا بعدم وجود نظام وتكالب علي الجولف كار وأنت وشطارتك!!.. بعد انتظار نص ساعة بلا أمل قررنا أن نمشي إلي الجراج بالرغم من بعد المسافة.. في النهاية أقدر أقول إن مشروع تطوير حدائق المنتزه فاشل والمكان خسر كثيرا كثيرا في جاذبيته وجماله وإرثه التاريخي وأصبح متعبا ومكلفا ومغرقا في تحصيل الرسوم.. تجربة لن نكررها.
*** تعليق من تجربة أخري: المنتزه كما رسخت في ذاكرتنا تعتبر قيمة عزيزة جميلة لا تفارقنا وعندما نتحدث عنها القلب يرفرف والعين تدمع علي الزمن الجميل إللي راح واندثر.. المكان أنفق عليه الملايين بدعوي تطويره لكن للأسف ضاعت ملامح التاريخ والآثار الملكية إللي كان الواجب الحفاظ عليها للأجيال القادمة لتعرف تاريخ بلادها.. خسارة وألف خسارة عليكي يا إسكندرية- بحبك يابلدي.. بحب شمسك وبحرك وسماكي وناسك الطيبين المحترمين, لكن للأسف بتحبطيني في اندفاعك نحو طمس جمال الماضي لحساب التطوير المتدهور.