* للمرة الأولى يرفرف علم التحرير بألوانه الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود
* المصريون يرددون وراء قائد الجيش قسم التحرير بصوت يجلجل أرجاء الميدان
* “لن يقوم في أرضنا طاغية ما دامت هذه الصفحات من تاريخنا”..هكذا تحدث محمد نجيب
إعداد / سامية عياد
احتفالا كرنفاليا لن ينسى فى تاريخ مصر شهده ميدان التحرير لمدة أربعة أيام كاملة، احتفالا سمى مهرجان التحرير أقامه الثوار، في يناير من عام 1953، احتفالا بمرور ستة أشهر على قيام ثورتهم، الجيش والشعب معا يحتويهم ميدان التحرير، ذلك المكان الذي شهد رحلة نضال أبناء الوطن من أجل الاستقلال والحرية فى انتفاضة شباب الأمة عام 1935 وانتفاضة عام 1946 وحين خرجت في مظاهرة مليونية صامته عام 1951 تعبر بصمتها البليغ عن مطالبها المشروعة، فى جنباته توافد مئات الألوف من أبناء الوطن من جميع أنحائه ليشاركوا فى الاحتفال الذى رفع خلاله لأول مرة علم التحرير بألوانه الثلاثة ، واستبدل النشيد الملكي بالنشيد الوطنى ، وأعلن خلاله اللواء محمد نجيب شعار المرحلة الجديدة النظام والاتحاد والعمل …..
بداية .. ميدان التحرير هو الاسم الجديد الذي أطلق على أشهر ميادين مصر بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 ، فقبل انطلاق فعاليات مهرجان التحرير فى يناير 1953 غيرت وزارة الإرشاد القومى اسم الميدان من “الخديو اسماعيل” ليصبح اسمه “ميدان التحرير” وهو الاسم الذى عرف به حتى اليوم، ولقد عرف ثوار يوليو من ضباط الجيش طريقهم الى الميدان ، ففي أكتوبر 1952 استعرض الجيش قوته وقواته وسط مئات الآلاف من الجماهير بمناسبة مرور ثلاثة أشهر على ثورتهم ..
وفي يناير 1953 عاود ثوار يوليو لميدان التحرير في استعراض آخر أكبر أطلقوا عليه “مهرجان التحرير” بمناسبة مرور ستة أشهر على قيام الثورة، ففى صباح يوم الجمعة 23 يناير عام 1953 توافد على ميدان التحرير ما يزيد على المليون مصرى يتقدمهم رجال الثورة على رأسهم اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة في مشهد كرنفالي تاريخي لن ينسى ، وشهد ميدان التحرير ألوفا من الأجانب من رجال السلك الدبلوماسي ورجال الصحافة والإذاعة ووكالات الأنباء حضروا من مختلف بقاع الأرض ليشاهدوا بأعينهم وضع أسس مرحلة جديدة فى تاريخ مصر ..
كان احتفالا كرنفاليا شاركت فيه فرق الجيش وطلبة الكليات العسكرية وأقيمت فيه عروض رياضية وموكب للزهور شاركت فيه معظم الهيئات والشركات وأصحاب المتاجر الكبرى والأهم أن اليوم الثالث من أيام المهرجان كان هو يوم شهداء البوليس الذين سقطوا في معركة البوليس ضد قوات البريطانية في الإسماعيلية يوم 25 يناير 1952 وقد أهدى اللواء محمد نجيب رجال البوليس نجمة التحرير..
خطبة تاريخية
وقف اللواء محمد نجيب في الساعة التاسعة إلا الربع من صباح يوم الثالث والعشرين من يناير يخطب في الجماهير الحاشدة في قلب ميدان التحرير أمام الميكروفون ليلقي خطبة تاريخية قال فيها : “أيها المواطنون هذه الأمواج المتلاطمة وهذه الحشود المتزاحمة من أبناء وادي النيل تدفقت اليوم من كل صوب ليشهد العالم أن مصر التي ظن الظانون أن وحدتها قد تفرقت وأن إرادتها قد تفرقت وأن قوتها قد تبددت لا تزال كما كانت في الماضي السحيق ، وكما ستكون في المستقبل القريب صخرة تتحطم عليها جهود الطغاة و مقبرة تطوي عليها عظام الظالمين ، هذه الجموع التي تراست وهذه الوحدات التي تجمعت وهذه الصفوف التي تلاصقت لم تخرج من دورها ولم تسق لتأخذ مكانها لتتفرج وترى وتسمع وتهتف ، إنما انبعثت من كل فج لتعلن للدنيا أن إرادة الحياة والتحرير والعزم على الرغم من كل ما دبر لبلدنا من فتن وما سلط عليها من ظلم وما ألهب ظهرها من سياط الخونة والمارقين وأعوان الفساد والبغي..”
كانت خطبة اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة تملؤها الحماسة والكلمات الرنانة ذكر فيها للمصريين المحتشدين في الميدان بكفاح الأجداد ضد الحملة الفرنسية وحملة الإنجليز على مصر عام 1807 وبالزعيم التاريخي للمقاومة المصرية عمر مكرم حتى قال اللواء نجيب في خطبته : ” …. والله لن يقوم في أرضنا طاغية ما دامت هذه الصفحات من تاريخنا معروضة على أولادنا يتعلمونها ويفهمون معناها وما دمنا نذكر اسم عمر مكرم الذي جاهد الغزاة الفرنسيين وقاوم الطغاة العثمانيين فلنتذكر اسمه في عيد التحرير وفي ميدان الحرية …”
المصريون يرددون قسم التحرير
فى هذا الاحتفال رددت الملايين المحتشدة وراء اللواء محمد نجيب قسم التحرير بدا وكأن المصريون بهذا القسم يتطهرون ومعهم المكان الذي صار جزء لا يتجزأ من تاريخهم الوطني شاهدا على ما مضى ومشاركا فيما هو قادم ، ردد المصريون قسم التحرير وراء القائد العام للقوات المسلحة في الميدان قائلين:” اللهم إنك تحب الأقوياء وتكره المستضعفين وتنشر رحمتك على الذين يؤثرون الموت العزيز في سبيل الحرية على الحياة الذليلة في مجال الاستعباد اللهم وإنك قريب ترى وتسمع وإننا لنقسم بذاتك العلية على أن نعمل ما في وسعنا لإرساء قواعد الحياة المقبلة لوطننا … وأن نبذل في سبيل ذلك كل ما تقتضيه مصلحة أمتنا ويبغيه شرف بلدنا ، وأن يكون شعارنا دائما الاتحاد والنظام والعمل ، اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين” .
ويقول اللواء محمد نجيب في كتابه “كنت رئيسا لمصر” عن تلك اللحظات التاريخية في عمر الوطن التي سجلت وقائعها على أرض ميدان التحرير والتي أقسم فيها المصريون قسم التحرير :”كانت المرة الأولى في تاريخ مصر يحدث هذا المشهد بين الحاكم والمحكوم ، وكانت المرة الأولى التى أطلق فيها شعار الاتحاد والنظام والعمل ، وكانت المرة الأولى التى يرفرف فيها علم التحرير الذى يتكون من الأحمر والأبيض والأسود وهى الوان تمثل دماء الكفاح وطهارة المبادىء وفساد الماضى ، وكانت المرة الأولى التى نغير فيها السلام الملكى ونستبدله بسلام وطنى جديد ..” .
رموز غيرتها الثورة
والجدير بالذكر أن علم مصر قبل الثورة يعرف بالعلم الأهلى وهو علم أخضر به هلال أبيض وثلاثة نجوم ، بعد قيام الثورة رفع علم التحرير لأول مرة فى هذه الاحتفالية بألوانه الثلاثة الأحمر يرمز الى دماء الشهداء ، الأبيض يرمز الى التحرير والأسود يرمز الى العهد البائد والاستعمار ، من ناحية أخرى يذكر أن النشيد القومى اسلمى يا مصر كان النشيد الوطنى لمصر فى فترة ما قبل ثورة يوليو 1952 الذى ألفه مصطفى صادق الرافعى ، وبعد قيام الثورة وخلال هذه الاحتفالية استبدل هذا النشيد بنشيد الحرية من ألحان محمد عبد الوهاب والذي مطلعه “كنت فى صمتك مرغم كنت فى صبرك مكره” …
الإعلان عن قيام هيئة التحرير
وفي هذا المهرجان أعلن اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة قيام هيئة التحرير وهي تنظيم شعبي ينطوي تحته المصريون كبديل الأحزاب السياسية التي صدر قرار بحلها قبل احتفالات مهرجان التحرير بأسبوع واحد فقط وجاء فى بيان إعلان قيام الهيئة : “إنها طريق للعمل المفتوح أمام المصريين جميعا”..
انتعاش و رواج اقتصادى
الصحافة آنذاك رصدت لنا جانبا من كواليس هذه الاحتفالية فذكرت أنه لم يقع حادث جنائى واحد رغم الزحام الشديد وقد بلغ عدد الحاضرين المليون وقد اختفى النشالون عن هذا الزحام فلم تسجل أي حوادث نشل ، أما المخابز فقد ضاعفت في إنتاج الخبز فزاد الإنتاج من خمسة ملايين رغيف يوميا الى تسعة ملايين ، أما عن الفنادق المحيطة بالميدان أو الموجودة قريبة منه فلم يخلو منها سرير أو حجرة حيث يشغلها الوافدون من خارج القاهرة أو من خارج القطر المصري لحضور المهرجان ، بعض المقاهي استغلت فرصة توافد هذه الأعداد الهائلة على المكان وقامت بتأجير مقاعدها للمتفرجين ، بعض أصحاب العربات الكارو قاموا بتأجير الوقفة فوق العربة لمشاهدة عروض المهرجان بقرشين صاغ ، وانتعشت حركة باعة السميط والجبن والأطعمة الشعبية ومخازن الفراشه ومحلات الزينة والأدوات الكهربائية ..