عزيزي القارئ، حدثتك في المقال السابق عن البعد الطقسي للألحان القبطية في ألحان الكنيسة القبطية، واليوم أريد أن أتحدث معك عن البعد اللاهوتي والعقائدي للألحان القبطية.
➢ البعد اللاهوتي والعقائدي للألحان القبطية
لو لم يكن هذا البعد، ما كانت الألحان القبطية. فقد وضعت الكنيسة القبطية كل عمق إيمانها ومفاهيمها اللاهوتية وكل تفاصيل العقيدة المسيحية الأرثوذكسية في صورة نغمية حية فكانت الألحان القبطية. فأصعب المفاهيم اللاهوتية والعقائدية التي يصعب شرحها في عظات طويلة، يمكن توصيلها في لحن بسيط بسهولة شديدة. وهذا ما فعلته الكنيسة القبطية، أنها عَظّمَت الألحان والموسيقى للقيام بهذا الدور الهام، إذا ما قارننا بين زمن التسبيح في الليتورجيات (ساعات) وزمن الوعظ (دقائق).
فعندما أرادت الكنيسة شرح مفهوم الثالوث القدوس المساوي، وضعت لحناً للثلاثة كلمات ” ajioc ” في التسبحة الشاروبيمية على نغمة واحدة هي نغمة “فا”، وجعلت زمنها الموسيقي متساوي هو البلانش، وللأسف الشديد عند ترجمة نفس اللحن إلى اللغة العربية لم يتحقق هذا المفهوم فصارت الثلاثة كلمات “قدوس” مختلفة نغمياً وزمنياً. ولذلك نادى الكثير بعدم تعريب الألحان وأن تُرنم الألحان بلغتها الأصلية قبطية كانت أم يونانيةطالما هي ألحان تعبيرية نغماتها تشرح كلماتها ومعانيها.
وعندما أرادت الكنيسة أن تشرح المفهوم اللاهوتي العميق لسر الإفخاريستيا، والذي أسسه السيد المسيح مع تلاميذه الأطهار في العلية، والذي فور حدوثه كتب الإنجيلي مارمرقص الرسول الطاهر والشهيد: “ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون”.(مر14: 26)، وضعت الكنيسة في أفواه المؤمنين لحن ” Am3n am3nam3n ton 0anaton ” الذي ترجمته “آمين بموتك يارب نبشر”.فهذا السر عظيم، وشرحه بالعظات قد يُزيد الأمر تعقيداً. فالسيد المسيح يوم “الخميس” في العلية عندما “أَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً” كماهو مكتوب في إنجيل لوقا 22 آية 19:
“هذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي”
في ذاك الوقت لم يكن السيد المسيح قد قدم نفسه ذبيحة على الصليب، فكيف أعطاهم جسده ودمه، وهو حتى هذه اللحظة لم يكن بعد قد قدم ذاته ذبيحة؟ ولم يسيل الدم من جنبه. والحقيقة هي أن السيد المسيح عمل بذاته مايسمى بالـ Anamnesis ،وهو مصطلح لاهوتي يصعب ترجمته. فترجمه البعض “تذكار” والبعض ترجمه “إستدعاء”. وطلب السيد المسيح من تلاميذه إن يفعلوا مثاله. فالسيد المسيح بذلك قد “إستدعى” الذبيحة التي كان مزمع تقديمها يوم الجمعة على الصليب قبل حدوثها الفعليبيوم، وكأنها حدثت يوم الخميس تماماً كما سوف تحدث اليوم الذي يليه “الجمعة”. وأوصى تلاميذه إن يصنعوا هذا “الإستدعاء” كل مرة، كل يوم إلى أن يجيء في مجيئه الثاني المخوف المملوء مجداً. ومن هنا صار هذا اللحن ” `Am3n `am3n `am3n ton 0anaton ” في غاية الأهمية بكلماته اليونانية والتي لا يحبذ ترجمتها فكل تعبيراته غاية في الدقةوكل مصطلحاته لاهوتية وعقائدية، وعند ترجمتها تفقد كتير من قوة معانيها. لذلك عندما يرنم الكاهن في القداس الإلهي الجملة”وتذكرونني إلى أن آجيء” يصرخ كل الشعب لانه عايش إستدعاء حقيقي لهذا الـ Anamnesis ولهذه الذبيحة، وهذا اللحن الجبار الذي مدته لا تزيد كثيراً عن الدقيقة الواحدة بقوة كلماته الإلهية، وبالروح القدس العامل فيه منذ سبح به التلاميذ في العلية منذ ألفي عام، وظل يسبح به في كل يوم حتى اليوم، هذا الشعب يؤمن ويصدق أن المكسور على المذبح ليس هو خبز وخمر، بل هو جسد ودم حقيقى ليسوع المسيح إبن إلهنا الذى مات وقام وصعد إلى السموات، لذلك يصرخوا معاً بنفسٍ واحدة بهذا اللحن قائلين: “آمين بموتك يارب نبشر، وبقيامتك المقدسة، وصعودك إلى السموات نعترف”. لذلك يجيئ اللحن ممتلئ قوة، لإن الشعب هنا يعلن عن استعداده الكامل لأن يبشر بموت المسيح …ذاك الموت الذى أُقيم به الموتى إلى جِدة الحياة. فقد حمل اللحن “آمين طون ثاناطون” بين نغماته المعنى اللاهوتي الجبار الذي لايمكن لا شرحه ولا ترجمته وهو ما سُمِىّ مجازاً بالـ”Anamnesis ”
عزيزي القارئ، أتمنى أن أكون قد إستطعت أن أشرح لك مفهوم البعد اللاهوتي والعقائدي للألحان القبطية، لكن لإن الحديث عنه شيق ولم ينتهي، لذا سوف أستكمل حديثي معك عنه في الأسبوع القادم فإلى أن ألقاك اتركك والمفاهيم اللاهوتية الصعبة تتغلغل في كيانك بإنسياب هذه النغمات في أذانك ووجدانك.