· ” لا .. سنؤلف حزب العمال” .. هكذا كان رده الصارم على اعتراض النحاس
· يقود الترام لينهى إضراب عمال النقل .. و يجبر الحكومة على منحهم علاوة غلاء
سطع نجمه وتألق وسط جماهير العمال، حتى أطلق عليه زعيم العمال، لم يرهبه الاعتقال والسجن بل كان يزداد تمسكا بالعمال والدفاع عن حقوقهم مهما كلفه، أراد تحريرهم من الفقر والجهل والحاجة والمرض ، تولى رئاسة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، سعى إلى تأسيس حزب للعمال رغم محاولات إفشاله، ناضل من أجل إصدار تشريعات عمالية، طالب بأن يكون من بين العمال نوابا يمثلونهم فى البرلمان .. هو عباس حليم سليل العائلة المالكة الذى خرج على التقاليد المتبعة من أجل الدفاع حقوق العمال …
من هو عباس حليم
جده كان أحد أبناء محمد على باشا، وعمه كان رئيس وزراء الدولة العثمانية ، اسمه عباس حليم وكان يسبق الاسم لقب النبيل الذي يعطي لأبناء الأسرة العلوية ، ولد فى الإسكندرية عام 1897 ، انتقل فى صغره الى ألمانيا حيث تعلم ونشأ في بلاط القيصر، وأصبح طياراً حربيا ومساعدا للقيصر وشارك فى الحرب العالمية ضمن سلاحى الطيران الألماني والعثمانى ، بعد الحرب عاد الى مصر ونشط فى رعاية الرياضات المختلفة ، أسس أندية للملاكمة والجولف وترأس نادى السيارات المصرى وكان هو نفسه سباحا وملاكما ولاعب تنس واشتهر برحلات صيد الطيور ، والحيوانات وكان يحتفظ بحيوانات مفترسة محنطة كان قد قام باصطيادها وكان يحتفظ فى قصره بمجموعة كبيرة من البنادق وكثيرا ما كان يظهر بجوار الأسود بالصور التي نشرت له.
خلافه مع الملك فؤاد
في عام 1930 أقدم على خطوة غير مسبوقة لأفراد الأسرة المالكة، حيث تدخل علنا في السياسة ورفض عزل وزارة النحاس التي تشكلت بعد انتخابات فاز فيها الوفد بأغلبية ساحقة بشكل أغضب الملك فؤاد، فقد نشر عباس حليم فى شهر أكتوبر عام 1930م بيانا طالب فيه الملك فؤاد بإعادة حزب الوفد إلى الوزارة حتى لا يدفع مصر إلى هاوية حرب أهلية حيث كانت حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا قد تقدمت باستقالتها وكلف الملك فؤاد إسماعيل صدقي باشا المكروه من الشعب بتشكيل الحكومة وأعلنت الوزارة الجديدة حل البرلمان وتعطيل دستور عام 1923م وأصدرت دستورا آخر هو دستور عام 1930م الذى أعطي للملك المزيد من الصلاحيات لم تكن له في دستور عام 1923م .
وقامت مظاهرات عنيفة حاشدة في جميع أنحاء البلاد تنادى بسقوط دستور صدقي باشا وعودة دستور عام 1923م ، وتعاملت حكومة صدقي مع هذه المظاهرات بمنتهى الشدة والعنف والقمع .
أغضب هذا التدخل الملك فؤاد، فأمر بالقبض على عباس حليم ووضعه في السجن لأنه اعتبر ما يقوم به النبيل عباس اشتغالاً بالسياسة وهو ما يعد خروجا على تقاليد العائلة الملكية ، بل أزال اسمه من شجرة العائلة و حرمه من لقب النبيل .
علاقته بالعمال
بدأت علاقة عباس حليم بالعمال منذ أن تولى الرئاسة الشرفية لنقابة عمال النقل الميكانيكى عام 1927 ، ومن هنا جاءت صلته بمحمد ابراهيم زين رئيس نقابة عمال النقل أحد ابرز الشخصيات فى الاتحاد العام لعمال نقابات مصر وصار سكرتيرا لعباس حليم وممثلا له لدى الاتحاد العالمي للنقابات .
و إكتسب عباس حليم شعبية كبيرة وسط الشعب والعمال والبسطاء بعد موقفه القوى من وزارة صدقي، وبادر الوفد بإعلان تأييد عباس حليم بشكل عملي، أما العمال فقد تعددت مظاهراتهم واضراباتهم إحتجاجا على إعتقال النبيل حيث أنهم كانوا يحبونه نظرا لسعيه من أجل تحسين ظروف معيشتهم ، وقد قام عباس حليم بالإضراب عن الطعام وهو ما اضطر الملك فؤاد أن يخرجه من السجن .
رئاسته الاتحاد العام لنقابات عمال مصر
ولعل شهرة عباس حليم ذلك النبيل الشاب وشعبيته التي اكتسبها بعد موقفه السياسي وحرمانه من اللقب الملكي جعل أعضاء الاتحاد العام لنقابات عمال مصر يفكرون في زعامة وطنية مخلصة فوقع الاختيار على عباس حليم ليتولى رئاسة الاتحاد ، الذى لم يمانع وقبل رئاسة الاتحاد فى ديسمبر 1930 .
ولم يمضي شهر على رئاسه عباس حليم للاتحاد حتى اعلن في ابريل عام 1931 من خلال جريدة الاتحاد قانون يسير عليه الاتحاد ويمنحه صورة التنظيم القومى الحقيقي، وقد حدد القانون اغراضه فى تحسين حال الطبقة العاملة المادية و مساواة العمال المصريين بزملائهم الأجانب الذين يعملون معهم في مهنة واحدة في الأجور والامتيازات ، وحق العامل في الراحة الأسبوعية وتحديد الحد الآدنى للاجور في جميع المهن .. وغيرها من البنود الذى شملها القانون .
ولكن هل وقفت حكومة صدقى صامتة أمام نشاط عباس حليم؟ .. كان رد فعل الحكومة عنيف ، فأسرعت الى اغلاق دار الاتحاد في 15 مارس عام 1931 وشنت على النقابيين حربا في أرزاقهم فكانت تلقي القبض عليهم بين وقت وآخر وتزج بهم في سجون الأقسام بمختلف أنحاء القاهرة ، وتم مصادرة امواله وإغلاق دور نقاباته وأنديتها.
وما على عباس حليم ألا أن يرفع مذكرة الى الى رئيس الحكومة يناشد فيها العدول عن مطاردة الاتحاد و رد أمواله ، ثم أرسل ببرقية الى رئيس حزب العمال الانجليزى يناشده التدخل من اجل انقاذ حركة العمال في مصر، وأصبح قصره مقرا لاجتماع قادة الحركة النقابية وأرسل سكرتير الاتحاد ابراهيم زين لحضور مؤتمر اتحاد النقابات الدولى فى مدريد فى يوليو 1931 ، الذى قدم تقريرا للمؤتمر انتقد فيه موقف الحكومة المصرية من نقابات العمال.
في عام 1934 استعاد الاتحاد العام لنقابات عمال مصر نشاطه متخذا من دار عباس حليم بقصر الدوبارة مقرا له ووضع الاتحاد برنامجا جديدا للعمل هدفه تحسين ظروف العمل ، ولكن حكومة صدقى لن تترك الأمر .. فقد تم منع العمال من دخول دار الاتحاد و حاصر البوليس الدار في 20 يونيو 1934 وإلقاء القبض على 95 عاملا من مختلف النقابات ، ألقى القبض على عباس حليم ولكن لم يلبث أن أطلق سراحه بتدخل السفير البريطاني دون ان توجه اليه تهمة معينة وتمت محاكمة العمال المتهمين في الحادث .
تأسيس حزب العمال
يرجع أقدم محاولات تأسيس حزب للعمال الى العقد الأول من القرن العشرين حين أعلن الصحفي محمد احمد الحسن عن عزمه على إلقاء خطبة عامة موضوعها ضرورة انضمام أصحاب الحرف المصرية والأجنبية على اختلاف طبقاتها الى حزب واحد و أن يكون له جريدة تتحدث عنه ، ويبدو أن هذه الدعوة لم تثمر في حينها ،
ولم تتجدد محاولة إقامة حزب العمال الا مع مطلع الثلاثينيات حين اعلن عباس حليم تأسيس حزب العمال في يونيو عام 1931 ، فاتصل الاتحاد العام لنقابات عمال مصر بحزب العمال البريطاني وبغيره من أحزاب العمال في أوروبا وطلب منها أن تمده بدساتيرها لدراستها.
وقد توجه عباس حليم الى مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد يستأذنه فى إقامة حزب للعمال ، ألا أن النحاس أبدى عدم موافقته على تأليف الحزب قائلا: “العمال لا غنى لنا عنهم وإذا تألف لهم حزب فماذا يبقى لنا غير شوية المحامين و الدكاترة..”
ولكن عباس حليم رفض هذا الكلام من النحاس و بصرامة شديدة رد عليه قائلا له : “أتريدون مني أن أقف وعمالى أمام أبوابكم ننتظر الاذن بالدخول .. لا .. سنؤلف حزب العمال”.
ومن ناحية أخرى نما إلى علم عباس حليم أن حكومة صدقي تعد العدة لنفيه من البلاد مع من يعملون معه في اتحاد العمال بتهمة العمل على قلب نظام الحكم ، فسارع الى اعداد بيان تأسيس الحزب ونشره في الصحف استنادا الى الدستور الذي كان يبيح تكوين الأحزاب السياسية وبذلك يكفل لنشاطه الحصانة الدستورية .
وأعلن بيان تأليف الحزب ونص في مقدمته على أن “حزب العمال هو حزب الزارع والصانع” وأنه قد دقت الساعة ليقوم العمال بواجبهم لمجد مصر ومجدهم ، وتشكل مجلس إدارة الحزب من مجموعة من المثقفين أبرزهم سلامة موسى وبعض العمال من أعضاء مجلس الاتحاد العام ، وكان عباس حليم يؤكد لكل من يراه أنه لا ولاية للوفد على حزبه وأنه يريد تجميع الطبقة العاملة فى تنظيم بعيد عن الوفد .
ونصت مبادئ الحزب على استصدار تشريع للعمال على أحدث المبادئ العصرية يشارك العمال فى وضعه ويكفل حرية تأليف النقابات والاعتراف بها و تحسين أجور العمال ، وتحديد ساعات العمل ومجانية العلاج والتأمين ضد الحوادث والمرض والوفاة والبطالة ، وجعل التعليم الابتدائي مجانيا إلزاميا لجميع المصريين بنين وبنات وغيرها من المبادئ .
وما كاد إعلان تأسيس الحزب يظهر بالصحف حتى قامت قيامة الوفد واتهمت صحفه عباس حليم بمحاولة شق الصف العمالي ضد الوفد، و أخذت لجان الحزب تعلن تنصلها من كل علاقة لها بحزب العمال، كما شنت حكومة صدقى نفسها هجوما ضد الحزب فكيف تعترف بحزب يرفض الاقرار بشرعية الدستور الجديد الذى وضعه للبلاد.
ولكن ماذا فعل عباس حليم آزاء هذا الهجوم ضد حزبه ؟ .. إزاء هذا الهجوم اضطر عباس حليم إلى التفاهم مع الوفد ووقف نشاط حزب العمال وتصفيته وأن يعود مرة أخرى يرعى نشاط الاتحاد العام لنقابات عمال مصر وبذلك انتهت محاولة إقامة حزب العمال في مطلع الثلاثينات ، ولم يزد عمر الحزب فى تلك الفترة على ستة أسابيع.
ومع ذلك لم يتوقف نشاط عباس حليم واتحاده وذاع صيته خارج البلاد وأصدر بيانا الى الصحافة يطالب فيه الحكومة أن تعلن عن سياستها نحو العمال فى مارس 1934 ، ولم تلتف الحكومة الى هذا النداء بل قررت منع قادة الاتحاد والنقابات من دخول سراى عباس حليم وعلم العمال بذلك فنظموا مظاهرة واشتبكوا مع البوليس وأصيب عدد كبير منهم والقى القبض على 95 عاملا .
وتم القبض على عباس حليم ولم يفرج عنه ألا بعد 27 يوما ، ومع ذلك ازداد نشاطه واتخذ مقرا جديدا للاتحاد فى ميدان أزبك بالقاهرة واتسع نشاط اتحاده .
وعندما صدر قانون العمل الفردى نبه عباس حليم العمال الى ما هم من ضياع وحاول عقد مؤتمر عام بالقاهرة فى فبراير عام 1936 بدار نقابة موظفى المحلات التجارية ، وأصدر مجموعة من القرارات حول تشريعات العمل .
واستطاع عباس حليم أن يعيد تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر فى أول مارس عام 1938 من 32 نقابة عمالية واتخذ الاتحاد له مقرا جديدا واسندت رئاسة الحزب الى النائب العمالى الشندى واحتفظ عباس حليم بلقب زعيم العمال .
إجبار الحكومة منح علاوة غلاء للعمال
ومع قدوم الحرب العالمية الثانية ازدادت أحوال العمال سوءا واستطاع عباس حليم إجبار الحكومة في صرف علاوة غلاء المعيشة للعمال بسبب الظروف السيئة التي عاشها العمال في تلك الفترة ، وتبنى مطالب عمال النقل ، فحينما قاموا بإضراب عام 1941 وتوقفت جميع وسائل النقل فى القاهرة ، وترتب على ذلك تعطل الأعمال فى مختلف مرافق العمل فى القاهرة ، انهى عباس هذا الاضراب بطريقته حيث قام بقيادة أول ترام غادر مخزن الجيزة حتى ميدان الملكة فريدة ، وتتابع سير قطارات الترام وانتظمت حركة المواصلات فى القاهرة ، وبالفعل صدر قرار من الحكومة بمنح علاوة غلاء للعمال .
وفى اوائل الاربعينات عزم عباس حليم إعادة حزب العمال القديم ورغبته فى ترشيح اعضاء منه لعضوية مجلس النواب ولكن حكومة الوفد قامت باعتقاله وتحت ضغط جماهيرى تم الإفراج عنه.
في عام 1944 بدأ العمل مرة أخرى على إعادة نشاط حزب العمال المصري بتوجيه من الملك فاروق ، وظل الحزب قائم رغم تعرضه للتفكك والانقسام فى قياداته حتى صدور قانون حل الأحزاب السياسية بعد ثورة يوليو 1952 .
بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952م تم مصادرة أملاك عباس حليم كما تم اعتقاله وتقديمه للمحاكمة بسبب علاقته الجيدة بالملك فاروق وصدر حكم ضده بالسجن لمدة عشر سنوات مع إيقاف التنفيذ وتوفي عام 1972 عن عمر يناهز 75 عاما .