قبل إنشاء الإذاعة المصرية في 31 مايو عام 1934 بوقت طويل كان المجتمع المصري خطا خطوات واضحة على طريق دخول الزمن الحديث. فجاءت الإذاعة لتكون الأداة الثانية بعد الصحافة على طريق توسيع دائرة الاهتمام بالمواطن وتوجيه وعيه وإدراكه، خاصة أن الإذاعة لا شك كانت دعماً حقيقياً وثورة في الاتصال اللاسلكية في مصر، لأن تأثيرها عاماً وواسعًا بخلاف الصحافة التي كانت محدودة الأثر؛ لأنها قاصرة على جمهور القراء وهو قليل جداً في بلاد تتفشي فيها الأمية آنذاك.
وبمناسبة الاحتفال بتأسيس الإذاعة المصرية في 31 مايو 1934، سنتناول “الإذاعات الأهلية” التي تعد نواة بداية الإذاعة القومية في مصر.
أما عن بداية نشأة فكرة الإذاعات الأهلية في مصر فيذكر لنا حلمي شلبي في كتابة “تاريخ الاذاعة المصرية”، أن الفكرة لم تكن واردة قبل عام 1932، وكانت الأجهزة اللاسلكية (الراديو) في مصر مملوكة لعدد قليل من الهواة الأجانب، ويقال إن أقدم جهاز لاسلكي تلقاها شخص يدعي أحمد صادق الجواهرجي عام 1923 هدية من صديق ألماني له يدرس اللاسلكي، ولكنه لم يجد من يستمع إليه لعدم وجود أجهزة استقبال، ولكن في 10 مايو 1926 صدر مرسوم ملكي يحدد شروط حيازة الأجهزة اللاسلكية في مصر، وبمدة بث لا تتخطى الـ4 ساعات بدأت الإذاعات الأهلية بثها أي قبل بث الإذاعة المصرية بـ8 أعوام، من غرفة أو شقة صغيرة على أقصى تقدير في القاهرة والإسكندرية لمستوطنين أوروبيين – أغلبهم من الإيطاليين واليونانيين- وقليل من المصريين، حيث كان معظم أصحاب تلك المحطات من التجار – خاصة أصحاب تجارة أجهزة الراديو- وكان الهدف من اقتناء هذه الأجهزة هو الترويج لمنتجاتهم وتشجيع الناس على شرائها.
ومع بداية الثلاثينات ظهرت أول إذاعة أهلية في القاهرة وهي إذاعة “مصر الجديدة”، وبعد عامين افتتحت محطة أهلية أخرى أوروبية هي إذاعة “سابو”، وفي عام 1932 افتتحت “محطة راديو الأمير فاروق” ثم تلاها راديو مصر الملكية ثم راديو الاميرة فوزية وراديو صايغ ثم راديو مصر الحرة وراديو رمسيس وراديو القاهرة، وفي الإسكندرية افتتحت محطة راديو فيولا ثم تلاها راديو ماجسيتك و راديو فريد وراديو فويس ثم راديو نافيرا، واستمرت الإذاعات الأهلية في إرسالها حتى توقفت عن الإرسال في 29 مايو 1934.
– ملك الراديو.. حبشي جرجس:
استهدفت الإذاعات الأهلية سكان الحي الذي تبث منه، مثل محطة راديو “حبشي” الذي يعد من أقدم الإذاعات الأهلية في مصر، أنشأ “حبشي جرجس” – وهو يعد رائد المحطات الإذاعية الأهلية في مصر- الإذاعة من مخلفات جيوش الحرب العالمية الأولى وبعض الأجهزة القديمة التي وجدها بمحل “إلياس شقال”، بـ “وكالة البلح”، فصارح حبشي صاحب المحل إلياس بحاجته لهذه الأجهزة لإنشاء إذاعة محلية لكنه لا يمتلك ثمنها، فوافق إلياس على منح حبشي الأجهزة بالإضافة إلى مبلغ 600 جنيها، على أن يصبح شريكاً معه في محطة الإذاعة، وانطلق البث الأول من غرفة بشارع فؤاد في حي شبرا، حيث منزل إلياس شقال تاجر وكالة البلح وشريك حبشي، وبدأ البث باشتراك نصف ريال للجمهور في مقابل أن يطلب المشترك ما يريد الاستماع إليه في خطاب موقع برقم اشتراكه في الإذاعة.
إلا أن الأمر لم يستمر طويلاً فقد اختلفوا وانتهت الشراكة بانسحاب إلياس وحل محله “إسماعيل وهبي” شقيق الممثل “يوسف بك وهبي” والدكتور “أحمد فريد الرفاعي” وظل سعر الاشتراك في الإذاعة نصف ريال، يتمتع المشتركين بالمحطة بميزة إذاعة الأغاني التي يطلبونها يوميا، فقد طل صوت “أسمهان” لأول مرة على الجمهور بإحدى أغاني السيدة أم كلثوم من خلال إذاعة “حبشي”، حسب ما قاله حبشي في لقائه مع مجلة المصور عام 1959، “حضرت في اليوم التالي للإذاعة لتؤدي وصلتها الأولى وتقاضت 70 قرشا”.
ومن المواقف الطريفة التي تعرض لها “حبشي” أثناء عمله بالإذاعة، عندما جاءت سيدة ودفعت اشتراك بقيمة 50 جنيها ليقطع حبشي البث في أي وقت ويبث لها أغنية “الجو رايق” لعبد الوهاب، و”الجو غيم” لصالح عبد الحي، تتواصل السيدة بالإذاعة عبر الهاتف لتطلب ميعاد بث الأغنية، حتى فوجئ حبشي باقتحام الشرطة للمحطة وإلقاء القبض عليه، واكتشف فيما بعد أن السيدة تبعث إشارات لأفراد عصابة تجارة المخدرات التي تترأسها لتبلغهم عما إذا كانت الشرطة متربصة بهم أم لا.
– فوضي الإذاعات الأهلية وإعلاناتها:
مع الوقت راجت تجارة بث الإذاعات وانتشرت، فهناك إذاعات دفعها الجنون إلى تخصيص محطات لبث رسائل الحب والهوى كما فعل اليوناني “رينى” لمحبوبته الإيطالية، وهناك إذاعات أخرى أنشئت من أجل بث إعلانات ومضاربات تجارية بالإضافة إلى الأغنيات المبتذلة، وإعلانات عن راقصات كلوت بك وعوالم شارع محمد علي بل ووصل الأمر إلى الإعلان عن أماكن ممارسة البغاء وتقديم وصلات سباب لتصفية الخلافات الشخصية لمن يدفع.
كما استغل التجار الراديو كوسيلة للترويج لمنتجاتهم، خاصة تجار أجهزة الراديو، كما ذكر كتاب “وسائل الاتصال الحديثة من الجريدة إلى الفيسبوك” سذاجة بعض الإعلانات المذاعة في ذلك الوقت، مثل “الو – ألو.. اسمع يا إخينا أنت وهو فيه قنبلة انفجرت في شارع الموسكي دلوقتي، وبعد قليل يعلن المذيع: أن هذه القنبلة هي الأسعار المذهلة التي تبيع بها محلات الضبع للعب الأطفال”.
ويصيح آخر “اسمع يا أخينا أنت وهو حدثت حريقة كبيرة في شارع شبرا.. وبعد قليل يقول “إن الحريقة لم تكن غير افتتاح خمارة الخواجة بنايوتي لبيع اصناف الخمور، وانها تباع بأسعار زهيدة جدا جدا”.
والواقع أن الإذاعات الأهلية برغم الرواج الذي حققته إلا أنه غلب عليها طابع الاضطراب و الفوضوية، وكانت الحكومة في هذه المرحلة معنية ببحث الشكاوى المرسلة إليها من الجمهور بسبب فوضى استعمال هذه الأجهزة، فبعض هذه الاجهزة تتداخل موجاته على بعضها البعض، وأخرى لا ترعي تقاليد وعادات الجمهور فتضايقه بما لا يرغب في سماعه من عزف او غناء او ما إلى ذلك، أي أنها تقلق راحته. فتذكر جريدة البلاغ على سبيل المثال أن إحدى محطات الإذاعة الأهلية رفعت دعوي قضائية امام المحكمة تطلب تعويضا من محطة أخرى لاعتدائها على موجاتها.
– نهاية عهد الإذاعات الأهلية:
وفي 12 يوليو 1933 وتحت عنوان “الحكومة والراديو” نشرت صحيفة الأهرام سلسلة تحقيقات وأخبار رفضا لأداء الإذاعات الأهلية، دفعت توفيق باشا دوس وزير المواصلات آنذاك للإعلان بأن الوزارة ستستعين بالأمن العام حتى لا يتم استخدام الراديو على نحو يزعج المواطنين، ودعا أصحاب الإذاعات للقائه للاتفاق على مواعيد محددة للبث، ولم يلتزم أصحاب الإذاعات، إذ أنهم لن يتمكنوا من سداد أقساط أجهزة الراديو إذا لم تمد الحكومة فترات عمل الإذاعة إلى وقت متأخر لأن زبائنهم سينصرفون إلى المنازل للنوم، وبالتالي يقل عدد رواد المحال العمومية. وعادت الأهرام لتجري عدد من التقارير التي تشير إلى صعوبة تحصيل الطلبة للعلوم بسبب ضوضاء الراديو، متواصلين مع وزير المعارف وقتها والذي اعترض أيضاً على الراديو. وهذه المرة خرج نائب الأمن العام ليعلن أن وزارة الداخلية ستقوم باتخاذ إجراءات حازمة وأن الحكومة لن تصمت وسوف تضع قريبا تشريع سيكفل الراحة للجميع، وخرج حكمدار القاهرة ليعلن قراره بغلق المحال التي تسبب ازعاج للجمهور بالإذاعات من غد، وتحمس خطباء المساجد لانتقاد عمل هذه الإذاعات التي تبث أماكن ممارسة البغاء علنًا.
فلم تجد الحكومة بد من الدعوة لاجتماع عاجل لمواجهة هذه الإذاعات، وأعلن وزير المواصلات توفيق باشا أن الحكومة سوف تنشأ محطة إذاعية كبرى في الجيزة، وأنها سوف تسمح للملتزمين فقط من أصحاب الإذاعات الخاصة بالاستمرار في البث حتى إطلاق هذه الإذاعة الحكومية بعد ١٠ شهور من الآن، مع سحب تراخيص أية محطة مخالفة، وهو القرار الذي رفضه معظم أصحاب هذه الإذاعات، لكنهم لم يجدوا بد من الاستسلام، بعد ممارسة كل أساليب الاستعطاف بل وأحيانا محاولات تأليب الرأي العام، انتهت بطلبها السماح بمنافستهم للإذاعة الحكومية، لكن توفيق باشا أعلن رفضه التام لكل هذه المقترحات، مطالبا إياهم بإزالة كافة تركيبات إذاعاتهم مع بداية بث محطة الإذاعة الحكومية في الساعة الخامسة إلا ربع من يوم الخميس الموافق الحادي والثلاثين من شهر مايو عام ١٩٤٣.
وفي 29 مايو 1934 صمتت الإذاعات الأهلية وتوقف بثها تماما، لتصبح موجات الأثير حكرا على الحكومة وحدها.
ويمكن القول أن المحطات الاهلية استطاعت أن توطد اقدامها في مصر وان تمر في فترة الثلاثينات بأزهى عصورها، فقد كانت تتمتع بالاستقلال الكامل في عرض ما تراه مناسباً من وجهة نظرها. وخلقت جوًا من الإذاعة والنشر لم تعرفه مصر إلا بعد دخول هذه الأجهزة كما أنها استطاعت أن تتعلم من أخطائها، ومن شكاوى الجمهور العام وبدأت في تطوير نفسها ومناقشة موضوعات مهمة واستضافة شخصيات عامة مؤثرة من علماء ومفكرين ومطربين وغيرهم .
هذا ما يؤكده لنا حلمي شلبي في كتابه “تاريخ الإذاعة المصرية”: أن الإذاعات الأهلية لعبت دوراً اكثر حيوية في تكوين الإنسان المصري، فالراديو كان يختصر المسافات ويمثل حدثا فذا بكل المقاييس، والدليل على ذلك ما كانت تبثه هذه المحطات الأهلية من برامج وموضوعات متنوعة ذات أهمية قصوى في مجال نشر الثقافة والبحوث الاجتماعية وتبسيط المعرفة العلمية والترويج للحركة التجارية والعناية بنقل جوانب الفن والموسيقي والغناء وغيرها”. فعلى سبيل المثال في عام 1932 تنقل لنا جريدة السياسة بث راديو (مصر الملكية) بالقاهرة، خلال أسبوع واحد عدة محاضرات عن حقوق المرأة لسلامة موسي، ولمحة عن المرأة الغربية للدكتور علي مظهر، وكيف تقضي أوقات الفراغ لفؤاد صروف، وآراء في التربية للسيدة بطلة حكيم.
كما اهتمت جميع المحطات الاهلية بإذاعة القرآن الكريم وأتاحت الفرصة امام جيل المقرئين الرواد لنقل أصواتهم إلى الجمهور في هذه الفترة المبكرة، وجعلت افتتاحيات إذاعاتها بآيات القرآن الكريم.
وهكذا يبدوا واضحًا أن المحطات الأهلية كانت تطور أدائها بسرعة مذهلة، سواء بالنسبة لإمكانياتها الهندسية كمحطات صغيرة او بالنسبة لدورها الاجتماعي من خلال تطوير البرامج. الأمر الذي ادي إلي محاولات الحكومة إلى احتكارها للإذاعة والسيطرة عليها، حتى انتهى الأمر في 31 مايو 1934 بأول بث من الإذاعة المصرية القومية.