بقلم: م. منــير وصـــفي بطـــــرس
باحث في موسيقى الألحان القبـطية
مـــدرس مــــادة اللــــحن الكنـــسي
بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيــة
أُريدُ في هذا المقال أن أعيشَ معكم في روح الصوم المقدس بلحنٍ مميزٍ من ألحان الصوم الكبير وهو لحن التوزيع الصيامي.
إن كنيستَنا القبطية غنية بطقوسها وألحانها العديدة والعميقة، فقد خصصت لكل فترة أجواء ومشاعر خاصة معينة؛ حتى يعيش المُؤمن من خلال هذه الفترة أحداثاًومشاعراً معينة تساعده على الدخول في عُمق المناسبة،فيَتَلاقَى مع المُخَلِّص في كل ذكرياتِهِ المقدسة فيشكره على نِعمِهِ وعطاياه الغنية التي أعطاها له خلال فترة تجسدِهِ وحتى بعد صعوده.
ومن خلال هذه الألحان نستطيع أن نفهم عملَ اللهِالخلاصي في كل مرحلة تَعِيشُها الكنيسة، وخلال حوالي الخمسينَ يوماً التي نَعيشُها في الطقس الصيامي،نصوم في أجواء من الهدوء والنُسك والتوبة والندم والخشوع؛ حتى يتحنن علينا اللهُ ويُعطينا الغلبةَ على الشيطان، كما غَلَبَ هو وانتصرَ عليه في التجرُبة على الجبل، وأن يُعطينا الانتصار على أهواءنا ومتطلباتنا العديدة لنعيش بالروح أكثر من تحقيق كل متطلبات الجسد والنفس، كما أن فترة الصوم بألحانها تساعدنا على الاحساسِ بالآخرين في احتياجاتِهم والعَطفِ على الفقراءِوالضُعفاءِ والمَرضَى والحزانى كما قال ربُ المجدِ: “بما أَنَّكم فعلتموهُ بأحد إخوتي هؤلاءِ الأصاغر فَبي فَعَلتُم”(مت 25: 40)، ولحن التوزيع الصِيامي يُعطينا هذه المشاعر في خشوعٍ وهدوءٍ وانسحاقٍ مُتَأَمِّلين في كل هذه الأمور، نُسَبِّح إلهَنَا الحبيب الذي تجسد لأجلنا كي يخلصَنا، ويُعطينا جسدَهُ المُقَدَّس لكي يثبت فينا، فنرتفع معه في رحلةٍ روحيةٍ سماويةٍ نَسمُو بها على كل فكرٍ أَرضي يُنبِت الأنانية ويُضَخِّم الذات.
لقد كُتِبَ في قوانين الرسل ما نصه: “وأن يصوموا في كل عام أربعين يوماً كما صام موسى وإيليا والأنبياء في العَتيقة، وابتدأ سيدُنا له المجد بذلك بالجسد؛ ليعلمَنَا أن نفعلَ ذلك قبل آلامِهِ وصَلبِهِ ومَوتِهِ ومَضجِعِهِ في القبر،ويومِ قيامتِهِ ونهوضِهِ وانبعاثِهِ “فيفصحون” عليه ويُعَيِّدون به أيضا”، ومعنى هذا أن الصومَ الكبيرَ بنسكِهِوزُهدِهِ وتَقَشُّفِهِ هو استعدادُ لأسبوع الآلام بكل نسكياته الخاصة، وتحضير الإنسان كي يستعدَ للقاء الربِ في فترة آلامه؛ ولذلك فالكنيسة في لحن هلليلويا التوزيع الصيامي تَمُرُّ بنا من مشاعرِ الطقسِ السنوي مروراً بمشاعرِالصومِ، ثم يَصِل في هذا اللحن إلى أجواء أسبوع الآلام،ثم ينتهي اللحن بالجزء الدمج المُعَبِّر عن روحِ الصومِوجَدِّيَتِهِ ومشاعرِهِ المَليئةِ بالشَجَن والهدوء.
إستنتاج تاريخي:
وقديماً كان الصومُ المقدس يُمَارَس ثاني يوم الغطاس كما ذُكِرَ في الإنجيل المقدس: “أنه لما صَعِدَ من الماء للوقت أخرجه الروح ليُجَرَّب من إبليسَ فصامَ أربعين نهاراًوأربعين ليلةً”، وكان أسبوعُ الآلامِ يُعمَل مُنفَرِداً في الوقت المُخَصَّص به، وكان له وقتاً مُحدداً قرره الآباء ليكون الفصح المجيد بعد عيد فصح اليهود، ثم لاحقاً اتصل بآخِر الأربعين المقدسة، فأصبح له معنى أقوى، حيث أصبح الصومُ بقراءاتِهِ وألحانِهِ وميطانياتِهِ وصلواتِهِ إعداداًلروح أسبوع الآلام، حتى تُصبح الروحُ في أقوى حالاتها وهي تتلاقى مع رب المجد في آلامه، وبعد هذا الشَحنِالروحي العميق يصير الفرحُ بقيامة المسيح فرحاً عظيماًكتعويضٍ لما سَبقَ من التَقَشُّفاتِ الصومية، فكما تألمنا مع المسيح نقوم معه في جِدة الحياة منتصرينَ على خطايانا وضعفاتنا، وتستمر أيام فرحنا خمسينَ يوماً كتعويضٍلخمسين يوماً (تقريبا) عشناها في النُسكِ.
ومن هذه المعلومة نستنتج أنه ربما يكون قد وُضِعَت ألحان الصوم المقدس ومنها لحن الليلويا التوزيع الصيامي في وقت لاحقٍ، بعد الفترة التاريخية التي اتصل فيها أسبوع الآلام بالصوم الكبير؛ حيث أنه يحتوي على أفكارٍ من ألحان أسبوع الآلام، كما أنه يقتبس أفكاراً موسيقية من لحن التوزيع السنوي مما يعطى فكرة أخرى أن ألحان الصوم وُضِعَت تاريخياً في قترة لاحقة لألحان الطقس السنوي. وهذا مجرد إستنتاج يحتاج إلى تأكيد تاريخي وعلمي.
مجموعات الألحان في الطقس الصيامي:
لقد تكلمتُ في مقال سابق عن أن ألحان الصوم الكبير لها نوعان أساس