عزيزي القارئ، حدثتك في المقال السابق عن تحليلي الشخصي لأقوال القديس يوحنا ذهبي الفم عن التسبيح والقيادة في خورس كتيسة مصر، وكيف أنه برغم أنه بطريرك القسطنطينية إلا أنه أشاد بكنيسة مصر وتسابيحها وقيادة ألحانها، ولم يشيد بكنيسة القسطنتينة التي يرأسها. واليوم سوف أتحدث معك عن القدرة الموسيقية التعبيرية لألحان الكنيسة القبطية لكي نستكمل معا البعد الموسيقي الذي بدأناه في عدة مقالات سابقة.
و عن القدرة الموسيقية التعبيرية في الألحان القبطية فقد صاغت الكنيسة القبطية ألحانها لكي ما تصل الى كل إنسان مؤمناً أو غير مؤمنٍ مهما كانت جنسيته أو لغته. لذا فبالرغم من أن الألحان القبطية لغتها الأصلية هي اللغة القبطية -فيما عدا بعض الألحان لغتها يونانية- إلا أنه بسبب التعبيرية المتأصلة فيها، لم تصبح اللغة عائقاً أمام أي إنسان يستمع إليها. فالألحان القبطية هي حقاً ألحاناً تعبيرية، ولكي تُعًبر الكنيسة عن المضامين الروحية والعقائدية والمفاهيم الإيمانية، بل وعن الحالة الروحية التي تعيشها في كل مناسبة طقسية، لجأ آباؤها المؤلفين مسوقين بالروح القدس الى سبعة طرق وأدوات للتعبير وهي كالأتي:
1. التعبير بأساليب الصياغة الثلاثة: الميليسما – السيلابك – النيوماتيك
2. التعبير بأساليب الأداء الأربعة: التقابلي – التجاوبي –الفردي – الجماعي
3. التعبير من خلال ديناميكية التعبير الصوتي المتنوعة: الخافت – القوي – الصارم – الناسك ،…،….
4. التعبير باستخدام المقامات وتحولاتها وتنوع أجناسها الموسيقية
5. التعبير باستخدام التحولات الإيقاعية وتغير السرعات
6. التعبير بإستخدام الناقوس والمثلث
7. التعبير من خلال الزخارف والحليات
ولضيق المساحة هنا، يمكن التحدث عن واحدة فقط من هذهالطرق والأدوات التي إستخدمتها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية للتعبير بالألحان، وهي أساليب الصياغة الثلاثة:
i) التعبيرية بأسلوب الميليسما Melismatic:
إستخدم آباء الكنيسة الأولين الميليسما كأداة تعبيرية قوية جداً، فمن خلال الميليسما صار في الأمكان التعبير عن ثلاثة:
a. فالميليسما تعبر عن معانى الكلمات بالتلحين بالأسلوب الميليسماتى، فتشرح بالنغمات الميليسمية معانى الكلمات.
– ففي لحن الميلاد ” #par30enoc” إستطاعت الميليسمابالنغمات السُلَمية التي تهبط أوكتاف كامل (سبعة نغمات متتالية) أن تصور المعنى العجيب “الإله الذي قبل الدهور”، فكيف يمكن تصوير هذه الكلمات البليغة بدون الميلسما. لقد ذكر أحد الموسيقيين المشهورين في برنامج تليفزيوني شهير على قناة مسيحية، أن التعبير بالميليسما في لحن “#par30enoc” عن “الإله الذي قبل الدهور” بالسلم الموسيقي الهابط هو تعبير عبقري، لا يمكن مقارنته بالتعبير المتوقعللفنان الكبير سيد درويش عند صياغته للجملة “علشان مانعلا ونعلا” بنغمات تعلو، وعن “لازم نطاطي نطاطي” بنغمات هابطة.
– كذلك في اللحن العريق العتيق ” Pek`0ronoc ” والذي له جذور فرعونية، ويقال في الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة، إستطاعت الميليسما أن تعبر بجدارة عن “كرسيك ياالله الى دهر الدهور” فقد صورت النغمات هذا العرش -الذي هو الصليب- وقد عُلق عليه رب المجد، بنغمات وقورة متئدة بطيئة عريضة، ثم امتدت النغمات الميليسمية بشكل آخر نشيط سريع مبهج مرتفع الى درجات صوتية حادة لترسم ديمومة هذا العرش الى دهر الدهور، إلى أبد الآباد.
– وفي لحن ” Xrictoc Anect3 ” الذي يقال في عيد القيامة والخماسين المقدسة، تجد أن لحن جملة ” 0anatw 0anaton pat3cac ” والتى تعنى “بالموت داس الموت”، جاء مُعبراً عن التضاد والتقابل في كلمتى “الموت”.فعند كلمة ” 0anatw “الأولى كانت النغمات حادة وقوية لتعبر عن قوة موت السيد المسيح، بينما عند ” 0anaton ” الثانية جاء فيها اللحن بنغمات منخفضة غليظة ضعيفة منكسرة، ليعبر عن موت الخطية الذى داسه موت السيد المسيح.
b. والميليسما تعبر أيضاً عن الحالة الروحية التي تعيشها الكنيسة، فقد صارت الكنيسة القبطية تصيغ لنفس الكلمات اللاهوتية نغمات ميلسمية في حالة الفرح تختلف تماما عنها في حالة الحزن، تختلف عنها في الطقس السنوي، وتختلف عنها في الطقس الكيهكي. وهناك العديد من الأمثلة لذلك فلحن ” Ajioc ” الحزايني الذي يقال في الساعة السادسة والتاسعة من يوم الجمعة العظيمة، قد صاغت له الكنيسة القبطية نغمات ميلسمية ممتلئة بالشجن، تقطر حزناً لتحرك في المؤمنين الذين ثبتوا أعينهم على دكة الصلبوت لينظروا السيد المسيح معلقا على الإقرانيون كالمذنبين وهو بلا خطية، فتُفجر هذه النغمات الحزينة في دواخلهم مشاعر التوبة والخلاص.
واللطيف هنا أنه بعد ثلاثة أيام فقط، عندما يقوم السيد المسيح من الأموات، وتفرح الخليقة بأنوار القيامة، تصيغ الكنيسة لنفس كلمات ” Ajioc ” لحناً بديعاً آخراً بنغمات ميليسمية من فرط عذوبتها وخطها اللحني الذي يرقص فرحاً كرقصة داود الملك أمام تابوت العهد، هذه النغمات تأتي فتمحو كل حزن وكل ألم وتملأ قلوب المؤمنين بالبهجة وبأفراح القيامة.
وكذلك أيضا نجد نفس هذه الكلمات ” Ajioc ” خلال الطقس السنوي تكتسي بنغمات وقورة رزينة ليست حزينة ولا مفرحة لكنها تشيع في النفس وقاراً وهدوءاً لتُشعر المؤمنين بمهابة الوقوف في حضرة الإله القوي الحي الذي لايموت.
هذا مثال واحد من أمثلة عديدة لكلمات يتم تلحينها بألحان مختلفة بنغمات ميليسمية للتعبير عن الجو الروحي والحالة الروحية التي تحياها الكنيسة ولكي تستحضر المؤمنين اليها، ليعيشونها بنفس الروح التي قصدها أبائها الأولين، مثل “`Povro ” والمزمور 150 الذي يُرتل به في توزيع القداس الإلهي “وقت التناول من الأسرار المقدسة”.
والكنيسة إستطاعت أيضاً أن تُعَبر عن حالة النسك التي تعيشها أيام الصوم الكبير، من خلال نغمات تتميز بالتقشف والزهد، فيظهر ذلك في لحن ” `N0o te 52ovr3 ” و “@are F5 “، وهي ألحان من فرط تقشفها صارت أقرب الى المارش العسكري إذ تشحذ همة المؤمنين ليقدسوا صوماً وينادوا بإعتكاف، وتأتي النغمات النسكية التي في هذه الألحان فتزيدهم صلابة لكي يقووا على صوم 55 يوماً متصلة، هي أقدس وأقوى صيامات الكنيسة القبطية على مدار السنة الطقسية.
عزيزي القارئ، أتمنى أن أكون قد إستطعت أن أشرح لك القدرة التعبيرية لألحان الكنيسة القبطية، التي لا يعرفها الكثير على مدى القرون الطويلة الماضية ، وفي المقال القادم سوف أستكمل معك الحديث عنها ، فإلى أن ألقاك اتركك في رعاية ملك الملوك ورب الأرباب.