باحث في موسيقى الألحان القبـطية
مـــدرس مــــادة اللــــحن الكنـــسي
بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيــة
بعد أيام قليلة نحتفل بعيد من أعياد كنيستنا القبطية،وهو عيد دخول السيد المسيح إلى الهيكل وهو طفل، وهو عيد من الأعياد السيدية الصغرى، وبهذه المناسبة أتكلم عن لحن من الألحان الجميلة والعميقة التي تقال خصيصاً لهذا العيد وهو لحن “تي جاليليئا”، والذي من خلاله نجد ربطاً جميلاً مابين كلماتِهِ وجُمَلِهِ اللحنية والطقس المصاحب له.
وهذا اللحن مأخوذ من نص نبوة إشعياء النبي، والتي أشار عنها القديس متى الرسول في إنجيله، وأريد أن أُقَدِّم الشرح لهذه الآيات تبعاً لتأملات وتفسيرات آباءنا الموقرين، نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل، وأبينا القمص تادرس يعقوب، وأبينا القمص داود لمعي.
ظلمة ما قبل إشراق النور(أش8: 9، 10):
“هِيجُوا أيها الشعوب وانكسروا، واصغوا يا جميع أقاصي الأرض، احتزموا وانكسروا، احتزموا وانكسروا،تشاوروا مشورةً فَتَبطُل، تَكَلَّموا كلمةً فلا تقوم لأن الله معنا”.
يُوَجِّه النبي إشعياء كلامه للبقية المؤمنة، ويطلب منهم أن لا يخافوا، فالأعداء لن يمكنهم أن يُدَمِّروا شعب الله،فالممالك كلها هاجت، و تكالبوا وتجمعوا كأحزاب، و تشاوروا بالحكمة العالمية، وتكلموا بأوامر وتهديدات؛ ولكن في النهاية تنتهي كل مملكة وكل قوى الشر أمام سلطان الله، وهذا ما حدث تاريخياً في أيام إشعياء وبعده،فممالك أشور وبابل وفارس واليونان هاجوا ثم انكسروا،حتي في أيام دقلديانوس أشرس حاكم روماني، أنتهى عصره وعصر الإضطهاد وبقيت المسيحية لأن الله معنا،وتشير هذه الآيات روحياً إلى هجوم الأعداء الروحيين على مملكة المسيح وهي الكنيسة، ولكن عمانوئيل (الله معنا) في وسطها لهذا سوف تنهارقوات الظلمة أمامها.
المسيح مابين المُتَشَكِّكين والمؤمنين (أش8: 14، 15):
“ويكون مَقدِساً، وحجر صَدمَة وصَخرة عَثرَة لِبَيتَي إسرائيل، وفخاً وشركاً لسكان أورشليم، فيَعثُر بها كثيرون، فينكسرون ويعلقون فيُلقَطون”.
فالمسيح حجرٌ مقدس بالنسبة للمؤمنين الذين يلجأون إليه ويتمسكون به لحمايتهم وخلاصهم، وهو حجر أساس وحجر زاوية يربط مابين المؤمنين من اليهود والأمم فيلتقيان فيه، وهوالذي يُبنَى عليه الإيمان، وفي نفس الوقت هو حجر عَثرة وصَدمة لغير المؤمنين الذين لم يفهموه، مثل رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين؛ ولكن وُجِدَت بقية مقدسة قبلته، مثل التلاميذ والرسل والمريمات وبيت لعازر وغيرهم، هذه البقية تُصبح الخميرة التي تُخَمِّر العجين في العالم كله.
وبمناسبة كلامنا عن عيد دخول المسيح الهيكل فقد أكد على هذا الكلام أيضاً القديس سمعان الشيخ، حينما حَمَلَ السيد المسيح على يديه قائلا: “الآن تُطلِق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام؛ لأن عَينَيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وَجه جميع الشعوب”، ثم قال للقديسة العذراء مريم “ها إن هذا قد وُضِعَ لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تُقاوَم” (لو2: 28-34).
إشراق المسيح على الجالسين في الظلمة (أش9: 1، 2)، (مت4: 14-16):
“ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق، كما أهان الزمان الأول أرضَ زبولون وأرض نفتالي، يُكرِم الأخير طريقَالبحرِ عبرَ الأردنِ جليلَ الأممِ، الشعبُ الجالسُ في الظلمةِأبصرَ نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نورٌ”.
لقد حذر النبي شعبَ اليهود في أيامِهِ، لأنهم سقطوا في خطيئتين، الالتجاء إلى التحالف البشري عوض الاتكال على الله، والرجوع إلى العِرافة والموتى لاستشارتهم عوض التمتع بكلمة الله الحية الواهبة الاستنارة والقوة فصاروا في ظلام، وهذه الصورة تُعلِن عن الحاجة إلى مجيء المُخَلّص الإلهي، ولكنه بدأ إصحاحه التاسع بلمسة من الرجاء والنور.
ومن الناحية الأخرى فقد تنبأ إشعياء بهذه الكلمات عن ظهور المخلص وبداية كرازته وإشراقه في منطقة الجليل، ومنطقة الجليل تاريخياً عبارة عن دائرة تضم عشرين مدينة أهداها سليمان إلى حيرام ملك صور، وهي تابعة لحدود سبطي زبولون ونفتالي في شمال إسرائيل،ونتيجةً لمكانها فقد اختلطت مع الأمم الذين على حدودها،وكان اليهود فيها قليلي العدد، وكان أكثر سكانها من الفينيقيين واليونانيين والعرب؛ لهذا سُمِّيَت (جليل الأمم)،وبسبب سبيهم إلى مملكة أشور، وبسبب إختلاطهمبالأمم الوثنية المجاورة لهم، أخذوا الكثير من العادات الوثنية، وظلت فترات طويلة في إنحلال روحي؛ لذلك قال عنهم النبي (الشعب الجالس في الظلمة) أي ظلمة الخطية والجهل وانقطاع الأمل في الخلاص، ولذلك كانت مُعَرَّضَة للغزوات من الشعوب التي حولها، وعن هذه الحالة المًظلِمَة قال نثنائيل: “أمن الناصرة يخرج شيءٌصالح؟” (يو1: 46)، ومن العجيب أن السيد المسيح يختار هذه البقعة الأكثر شراً ويسكن في مدينة الناصرة التابعة للجليل، ثم يسكن في كفرناحوم التي عند بحر الجليل أحد أهم مدنها، والتي كانت تتميز بارتفاعها جغرافياً وبكبرياء سكانها، بل اختار بعض تلاميذه منها وهم صيادين في المنطقة ليكونوا نوراً للأمم ويكرزوا بالإيمان والتوبة، وهم القديسين بطرس واندراوس ويوحنا ويعقوب بن زبدي، وفي هذه المنطقة التي عاش فيها السيد المسيح أغلب فترات حياته على الأرض نادى ببشارة الملكوت والدعوة إلى التوبة فأشرق عليهم نوره الإلهي، ولذلك قال النبي إشعياء “يُكرِم الزمان الأخير (العهد الجديد) طريق البحر (بحيرة جنيسارت)”.
وتطبيقاً لهذه النبوة في حياتنا، نجد أن الأرض أو الكنيسة أو شعب الله المحكوم عليهم بالضيق أو المشاكل أوالإهانة بسبب الخطية تتحكم فيهم الشياطين، والزمان الأول يرمز إلى الفترات التي نكون فيها ضعفاء وخطاه،أما الزمان الأخير هو الرجاء في الفضيلة والبر، حيث يُشرِق عليهم نورُ المسيح بالتوبة والرجوع عن الخطايا.
ومن هذه الفكرة الروحية نستطيع أن نعيش لحن “تي جاليليئا” الذي يُقال في عيد دخول المسيح إلى الهيكل،في دورة تُصَوِّر حَمل القديس سمعان الشيخ للسيد المسيح النور الحقيقي على يديه، وهذا اللحن العميق بقالِبِهِ المُوسِيقى يُصَوِّر فِكرتَين موسيقيَتَين،أحدهما تُصَوِّر فترة الظلام التي يجلس فيها الخاطىء،والثانية تُصَوِّر إشراق النور على هذا الخاطىء الذي ينتظر المسيح ليعمل في قلبه.
وللمقال بقية بإذن المسيح
لينك لحن “تي جاليليئا” بصوت المعلم الكبير إبراهيم عياد