تحتفل الكنيسة القبطية الارثوذكسية بعيد الغطاس، وتقام القداسات، ولعيد الغطاس أهمية كبيرة لدى المصريين وله فى قلب التاريخ قصص وحكايات.. لذلك سوف نرجع بالزمان حتى ندرك كيف كان يحتفل الشعب المصري أقباط ومسلمين بالغطاس في مصر .
قال القمص فيلوباتير زكي كاهن كنيسة العذراء مريم والملاك ميخائيل والشهيد ونس بالخصوص: لعيد الغطاس مكانة هائلة لدى المصريين فقد سجل عيد الغطاس فى كتب التاريخ بأيدى مؤرخين مسلمين وأقباط كمظهر من المظاهر القومية فى مصر وكان هناك طقوس للإحتفال به ولكم بعض الأمثلة:
– يقول عبد الرحمن الأبنودي فى كتابه “أيامى الحلوة” عن عيد الغطاس كان بعد الغروب يتجمع الاقباط ويرفعون صلبانهم المضيئة بالبلابيصا ليسطع النور فى أرجاء القرية المظلمة ويمر الموكب من دار إلى دار ومن درب إلى درب تتلألأ الشموع وتعلو الزغاريد وكنا نغنى …ليلتك يا بلابيصا..ليلة هنا وزهور..وفى ليلتك يا بلابيصا..حنو العصفور، وكان الاقباط يغنوا …يا ليلة الغطاس..يا فرحة كل الناس..بعماد الرب إيسوس ..نسجد ونقول أجيوس
..وكانت الاحتفالات تستمر حتى الفجر .
_ويقول مؤرخ آخر هو المسعودي في كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر” ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها، لاهتمام الناس فيها، وهي ليلة الحادي عشر من طوبة.
ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلاثمائة (الهجري) ليلة الغطاس بمصر والإخشيد محمد بن طفج أمير مصر، في داره المعروفة بالمختار في الجزيرة الراكبة للنيل، والنيل يطيف بها، وقد أمر فأسرج في جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل، غيرها أسرج أهل مصر من المسارج والشمع.
وهى أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورًا، ولا تغلق فيها الدروب ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض وإبعاد للداء.
_كما يروى المقريزى فى كتابه “المواعظ” عن عيد الغطاس فيقول: إنه يُعمل بمصر فى اليوم الحادى عشر من شهر طوبة، وأصله عند النصارى: أن يحيى بن زكريا عليه السلام، المعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمد المسيح، أى غسّله فى بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به الروح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم فى الماء فى هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا فى شدة البرد، ويسمّونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم إلى الغاية.
ولما تولى الأخشيديون الحكم، كان لليلة الغطاس شأن عظيم، وكان الناس “مسلمون ومسيحيون” لا ينامون فى هذه الليلة وقد حضر المسعودي سنة 330 هـ، ليلة الغطاس بمصر، والأخشيد محمد بن طفج أمير مصر فى قصره، فى جزيرة منيل الروضة، وأمر بإقامة الزينة فى تلك الليلة أمام قصره، من جهته الشرقية المطلة على النيل وأوقد ألف مشعل، غير ما أوقد أهل مصر من المشاعل والشموع على جانبى فرع النيل.
وحضر فى تلك الليلة آلاف البشر، من المسلمين والمسيحيين، ومنهم من احتفلوا فى الزوارق السابحة فى النيل، ومنهم من جعلوا حفلاتهم فى البيوت المشرفة على النيل ومنهم من أقاموا الصواويين على الشواطئ مظهرين ما لا يُحصى من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر، وكانوا يقضون ليلتهم فى اللهو والعزف على آلات الطرب، والتحلى بالجواهر الثمينة والزينة.
بعد الأخشيديين آل حكم مصر إلى الفاطميين “969-1171م “، فجعلوا مصر مستقراً لهم، وعطفوا على كل المصريين على اختلاف مذاهبهم، ومنهم الأقباط، فقربوهم إليهم، وجعلوا أعيادهم أعياد رسمية فى البلاد، اشترك فيها الخلفاء أنفسهم كالنيروز والميلاد والغطاس وخميس العهد وكانوا يُخرجون من خزائنهم العطايا، ويوزعونها على رجـال الدولة، لا فرق بين مسلم ومسيحى!
فكان إذا جاء عيد الغطاس يوزعون على الموظفين: الليمون، والقصب، والسمك البورى، وكان ذلك برسوم مقررة لكل شخص، وإذا رأينا إقبال الناس على أكل القصب فى هذه الليلة، واعتباره من عادات ورموز العيد فنذكّرهم بأن هذه العادة القديمة أدخلها الفاطميون فى رسوم دولتهم.
وكانت الخيام تُنصب على الشواطئ، ويأتى الخليفة ومعه أُسرته، من قصره بالقاهرة إلى مصر القديمة، وتوقد المشاعل فى البر والبحر، وتظهر أشعتها وقد اخترقت كبد السماء لكى تزينها بالأنوار البهية، ثم تُنصب الأسرة لرؤساء النصارى على شاطئ النيل فى خيامهم، وتوقد المشاعل، ويجلس الرئيس مع أهله، وبين يديه المغنون ثم يأتى الكهنة والرهبان وبأيديهم الصلبان، ويقيمون قداساً طويلاً ربما “قداس اللقان”.
واشار القمص فيلوباتير، كان فى وقت سابق بعد انتهاء طقس صلاة اللقان يخرج جموع الأقباط من الكنيسة حاملين البلابيصا وهى عبارة عن فوانيس مصنوعة من قشر البرتقال لانارة الطريق حتى وصولهم الى ضفاف النيل ليغطسوا فيه
ويقول ادوارد وليم لين فى كتابه “المصريون المحدثون” جرت العادة ان يقوم الكهنة بالكنيسة بصلاة لمباركة الماء ثم يصبونه فى النهر قبل ان يغطسون ويقام احتفال كبير على ضفتى النيل ويغطس الرجال شيوخا وشبابا وصبيان فى الماء احتفالا بتذكار تعميد السيد المسيح .
ومن الجانب الروحى تحدث معانا القمص مرقس ميخائيل كاهن كنيسة العذراء مريم والانبا باخوميوس بكوبرى الناموس بالاسكندريه: سوف اتحدث عن سؤال هام جدا ..لماذا اعتمد المسيح وهو لا يحتاج إلى المعمودية؟!.
فقد اعتمد المسيح ليتمم كل بر فقال ليوحنا المعمدان ” اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر حينئذ سمح له ” (مت3: 15) وكل بر تعني كل صلاح، ورغم أن المسيح هو البر ذاته لكنه تمم البر لتبرير الإنسان فيه، فنزل إلي معمودية التي للتوبة حاملاً خطايانا ليبرر من يتعمد.
وكان لاعتماد الرب يسوع إعلان الثالوث القدوس ” الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ وَالْكَلِمَةُ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ ” ( يو1 5: 7).. ليشهد له يوحنا وتلاميذه ” وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس ” (يو1: 33).
كما تعمد يسوع لمشاركة البشر في كل شيء ما خلا الخطية وتعليمنا أهمية التواضع ” فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ ” (عب2: 14).
كما إعلان الرب يسوع عن أهمية المعمودية ” الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ ” (يو3:3).
لذلك المعمودية هي أولى الأسرار السبعة أو هي المدخل إلى الأسرار السبعة وبدونها لا يتم أي سر ولعلها من أجل هذا أخذت إسم المعمودية لأنها عماد الأسرار.. والأسرار تعتمد عليها أولا.