عزيزي القاريء تحدثت معك في المقال السابق عن لحن طاي شوري الذي يعتبر نشيد العذراء، واليوم اريد أن استكمل معك الحديث عنه.
فأثناء أداء الشعب للحن طاي شوري (هذه المجمرة) يطوف الكاهن حول المذبح بالمبخرة ثلاث مرات تمجيداً للثالوث الأقدس ثم ينزل من الهيكل ليطوف حول الشعب بالبخور من اليسار إلى اليمين ليبارك الشعب وللإشارة إلى إرسال الرب رسله إلى العالم لتبشير الناس ودعوتهم إلى الإيمان باسمه، أما الطواف من اليسار إلى اليمين فهو إشارة إلى أنه نقلنا من الظلمة إلى نوره العجيب، وعندما يغمر البخور الشعب فإن هذا يشير إلى نعمة الروح القدس وهي تظللهم كما كانت السحابة تظلل بني اسرائيل في البرية.
ثم يعود الكاهن إلى الهيكل وهو يتلو سر الإعتراف والذي فيه يطلب من الله قبول اعترافات شعبه وغفران خطاياهم.
لا شك أن لحن طاي شوري في بدايته الرصينة وفي مقدمته القصيرة التي تحمل ثلاثة موازير بها 6 نبضات موسيقية قوية، إنما يُشير إلى الست أيادي بخور التي يضعها الكاهن ثلاثة منها إشارة للثالوث الأقدس والثلاثة الأخرى إشارة إلى ذبيحة هابيل وبخور نوح البار وذبيحة اسحق.
ولابد بعد وضع هذا البخور تبدأ الرائحة الذكية في الصعود، لذا فإنه عند آخر نبضة موسيقية في الست نبضات توجد كرونا (امتداد موسيقي) يعطي معنى روحي لصعود البخور ويعطي معنى زمنى للوقت الذى ينقضى فى أستلام المجمرة من يد الشماس مُقدمها ليبدأ الكاهن في الطواف حول المذبح ومن هنا يبدأ الإيقاع المنتظم ليرسم حركة الكاهن، ويبدأ هنا الناقوس والمثلث ضرباته الإيقاعية المبهجة معلناً أن البخور الذي هو صلوات القديسين يملأ الكنيسة ليتحد أعضاء الكنيسة المجاهدة بتلك المنتصرة.
وبعد المقدمة يبدأ الجزء الأول من اللحن بأيقاع نشيط مبهج يتكون من ثلاثة جمل موسيقية لكل منها مرد قصير (تذييل قصير) وكأن كل جملة ومردها يناظرها دورة للكاهن والشماس بالهيكل. فيها يؤكد أن هذه المجمرة الذهب النقي الحاملة العنبر هي العذراء التي حملت جمر اللاهوت في أحشائها ولم تحترق ويبدأ الشعب يسترجع هذه العليقة التي رآها موسى النبي وهي متقدة بالنار ولا تحترق فيشعر بان العليقة قربت مفهوم التجسد وها المجمرة الذهب تعيده إلى الذهن فيحمل بخورها أفكاره إلى السماء مع صلوات القديسين.
إيه يا عذراء … أيتها المجمرة الذهب
الله دخلك فخرج منك انساناً
سيد الكل دخلك فخرج منك عبداً
الراعي دخلك فخرج منك حملاً
الكلمة دخلك فصار صامتاً داخلك
الغنى دخلك فخرج منك فقيراً،
العالي دخلك فخرج منك متضعاً،
الضياء دخلك فأخفى نفسه
بقوة منه استطاعت مريم أن تحمله في حضنها هذا الذي يحمل كل الأشياء،
أرضعته لبناً هو هيأه فيها،
وأعطته طعاماً هو صنعه،
كإله أعطى مريم لبناً ثم عاد فرضعه منها كإبن انسان،
يداها كأنتا تعريانه إذ أخلى نفسه،
ذراعها احتضنته من حيث كونه قد صار صغيراً،
قوته عظيمة من يقدر أن يحدها. لكنه أخفى قياسها تحت الثوب، فقد كانت أمه تغزل له وتلبسه إذ أخلى نفسه من ثوب المجد.
من آدم الرجل الذي لم يكن له أن يلد خرجت أمنا حواء، فكم بالحري يلزمنا أن نصدق أن ابنة حواء تلد طفلاً بغير رجل.
الأرض البكر حملت آدم الأول الذي كان رأساً على الأرض.
واليوم حملت العذراء البكر آدم الثاني الذي هو رأس كل السموات.
عصا هارون أفرخت والعود اليابس أثمر
فقد انكشف اليوم سر هذا لأن البتول حملت طفلاً.
وكلما رفع الكاهن المبخرة إلى أعلى وهو يطوف حول المذبح كلما أكد مفهوم التجسد في ذهن الشعب وكأنه يقول لهم:
أترون هذه مجمرة الذهب إنها على مثال العذراء ، وكما أنها حملت هذا الجمر الذي بداخلها ولم تحترق كالعليقة، فأنه هكذا حملت العذراء المسيح في داخلها ولم تحترق.
ثم يبدأ الجزء الثاني من اللحن بكلمة هارون، فمن هو هارون وما هي علاقته بالعذراء أو المجمرة؟
يقول الكتاب: –
قال الرب لموسى “قرب إليك هارون آخاك … ليكهن لي” (خر 1:28) “وأصنع ثياباً مقدسة لهارون أخيك للمجد والبهاء” (خر 2:28) “وتقدم هارون وتأخذ دهن المسحة وتسكبه على رأسه وتمسحه وتقدمه بنيه…. فيكون لهم كهنوت فريضة أبدية” (خر29: 4-9 ) “وأقدس خيمة الاجتماع والمذبح وهرون وبنوه أقدسهم لكي يكهنوا لي” (خر44:29).
فهارون… مُسح لكي يكون كاهناً (أول كاهن) (رئيس كهنة) يكون كهنوته فريضة أبدية.
وهارون قدم ذبيحة دموية ترمز إلى ذبيحة الصليب التي قدمها المسيح (هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة)
لقد استخدم الرب موسى وهارون في هذه الفترة ليهيئ ذهن شعب بني اسرائيل إلى فكرة ميلاده من العذراء. فكانت العليقة لموسى في البرية وكانت المجمرة في يد هارون يرفع بخوراً على المذبح وبها الجمر.
لذلك يبدأ الجزء الثاني من اللحن يحكي قصة هارون الكاهن الأول الذي مُسح من الرب ليقدم بخوراً على المذبح بهذه المجمرة الذهب النقي الحاملة العنبر.
وتأتي نغمة السيكاه المطولة في أداء تصعيدي بالتدرج crescendo وكأنها تمضي عبر الزمن السحيق لتستدعي صورة هارون الكاهن وهو يحمل هذه المجمرة الذهب وكأنه flash back ثم تنتهي الجملة الثانية بنفس المرد القصير الذي يكون قد تم ترديده أربعة مرات حتى الآن منذ بداية اللحن.
ويبدأ الجزء الثالث من اللحن يشرح بالموسيقى دور هارون (الكاهن “بي اويب”) وهو يرفع البخور لذا تأتي ذروة اللحن عند كلمة (إفطالي) أي “يرفع” فتكون أعلى درجة صوتية في اللحن وهي نغمة سي بيمول لتتوائم مع النطق بكلمة إفطالي (يرفع).
يعقب هذا تنغيماً بأسلوب الميلسما (إطناب نغمي) في كلمة )استوى نوفي) أي البخور فيكون هذا التطويل النغمي معبراً عن رائحة البخور الزكية وهي تنتشر في كل مكان لتملأه قداسة وبراً وطهراً مقدماً إياه على المذبح.
أيه أيتها العذراء… يامن حملت في بطنك هذا الجمر الملتهب المسيح إلهنا… الكاهن الأعظم إله الكل… الذي يحمل كل الخليقة على راحته المقدسة، أذكرينا كلما يرفع الكاهن بخوراً على المذبح.
عزيزي القاريء أتمنى أكون قد أستطعت أن أشرح لك عمق معاني لحن طاي شوري، وفي المقال القادم سوف أتناول لحنا أخر من ألحان القداس الإلهي، فإلى أن ألقاك هناك أتركك تستمتع بهذا اللحن الجميل طاي شوري.
آمين،،