مُحاصرون بألسنة اللهب والنيران، مُغلقة صدورهم بالرُعب والدُخان، مُنكسو الرؤوس ومُنحنيو الأكتاف راكعون يضمون اطفالهم في لحظة الاحتضار المهيب، وعلى مشارف الموت يعلنون الحب الأبدي، في محبسهم الأخير بالطابق العلوي بكنيسة ابي سيفين بامبابة، اخرجوهم جثثاً اكتست السواد بعدما خنقتهم الأدخنة، حاملين رسالة روحية عظيمة مفادها ” هنا كانت الصلاة الأخيرة ل ٤١ قبطيا بينهم 18 من الأطفال ما بين عمر سنة ونصف و12 سنة، لكن هذا لن يمنع المسيحيين من التردد على الكنائس في تحد لمهمة شيطان هذا العالم التي تحدث عنها الكتاب المقدس،وهي وضع المؤمنين في الضيق “في العالم سيكون لكم ضيق لكن ثقوا انا قد غلبت العالم. (إنجيل يوحنا 16: 33).
هذه الرسالة الروحية العظيمة ربما تداوي أحزان البعض، لكنها ايضاً تطرح تساؤلات البعض الآخر من الحزاني الغاضبين، وتفتح نوافذ الُرُعب في قلوب من يرسلون اطفالهم الى الكنائس، خاصة فترة الإجازات الصيفية، فتخيل انك ذاهب للصلاة، فوجدت نفسك محاصراً بالنيران، أو أنك ارسلت طفلك لقداس الأحد أو لأي نشاط كنسي، فعاد اليك جثة مختنقة أو محترقة، وكأنك سلمته للموت طوعاً، شعوراً بالغضب الممزوج بالخوف، والتشكك اصاب الاقباط خلال الأسبوع الماضي، بعد تكرار حوادث احتراق الكنائس، التي وصلت لخمس كنائس خلال الشهرين الماضيين، لم تظهر نتائج التحقيقات لكنيستين منها حتى الأن، والكنيستان الأخريان، اتت النيران عليهما تماما بعد أن سرقت ارواح العشرات، خلال الأسبوع الماضي هما ” كنيسة ابو سيفين على اثر ماس كهربائي، وكنيسة انبا بيشوي بالمنيا على اثر لهو طفلين بالشموع – طبقا لبيان الكنيسة بعد تفريغ الكاميرات- وببنما تسرع البعض في التصريح بان السبب ماس كهربائي، بتتبع الكاميرات – حسب بيان الكنيية- وجد ان الأطفال عبثوا بالشموع في الهيكل ثم خافوا وسكبوا فوقها المياه، وتركوها هربا من الاشتعال … ” لكن لماذا لا يصدق الناس ؟
يخبرنا الواقع بأن الحقائق التائهة، وتجارب الماضي المريرة، والحوادث الإرهابية السابقة، والتسرع في اعلان تصريحات تستبق التحقيقات، جميعها اسباب تثير شكوك الناس وتدفع البعض لرفض تصديق الأسباب الحقيقية، حتى لو كان واثقاً انه ما عاد لأحد مصلحة في التعتيم، وأن التكنولوجيا الحديثة لم تترك شيئاً خفياً، لكنه ميراث الشك، الذي يجب معه التماس الأعذار للخائفين، وطمأنتهم، وتطييب جروح الذين داست عجلات الفقد نفوسهم، وليس تعنيفهم. فالأيام لم تُمكن قطاع كبير من الأقباط بعد من جبر شروخ اليقين، حتى صارت لليقين رحلة ممتدة عبر طريق من الإصلاح نسير عليه منذ بضع سنوات، نأمل أن ترمم إجراءاته تلك الشروخ، وأن تٌشيد ما هدمته العقود الفائتة في جدار الثقة بين الاقباط والأنظمة المتعاقبة.
إن الحق يحررنا، وفي الحق ينجلي الغموض، وتطمئن الصدور، لذلك يبحث البعض عن اجابة لسؤال وحيد هو من المسؤول؟ والمقصود بالمسؤول هنا ليس الفاعل، وانما الظرف والعوامل المؤدية، الخطأ والمخطىء، التمكين من الاصلاح ومعوقاته، في محاولة للاقتراب من الحقائق والاسباب الفعلية لتكرار حوادث الحريق في الكنائس، بلا تهويل او تهوين بلا مواربة او مجاملة لأي طرف اجرت جربدة “وطني” استقصاءات تقراونها على صفحات جريدة وطني في ملف خاص، صباح الأحد القادم، قام بموضوعاته نخبة من الزميلات والزملاء، ليجيب عن التساؤلات الحائرة بين النفي والاثبات.
هل السبب غياب إجراءات الأمن والسلامة؟ أم استحالة تطبيق اشتراطات التقنين التي تقف وراء ذلك الغياب؟ هل هو تأخير سيارات الحماية المدنية بسبب ضيق الشوارع؟ الذي يطرح تساؤلاً اوسع، وهو من المسؤول عن تشييد شوارع تمنع انقاذ الناس في المصائب؟ هل هو الخوف من فقد الترخيص، الذي يدفع الاقباط للاستمرار في الصلاة في مبان غير مطابقة أو غير مرخصة، بعد ان ظلوا لعقود يعانون من التعنت في استصدار التراخيص، حتى ان بناء ملهى ليلي كان ايسر من اصلاح دورة مياه في كنيسة، فهل ميراث الخوف في ملف بناء دور العبادة هو السبب? واذا كان كذلك فلماذا لم ينتزع بناء كنائس جديدة وتقنين مئات الكنائس ذلك الميراث من الخوف المتوحش داخل النفوس? وهل يمكن استبدال الكنائس المقننة في اماكن عشوائية بكنائس في اماكن عامرة آمنة لتخدم ذات المناطق وذات الكتل السكانية? وهنا اضم صوتي لصوت قداسة البابا تواضروس الثاني الذي يطالب الأجهزة المسؤولة بالانتباه لأزمة مساحة الكنيسة حيث قال تعليقاً على علاقة مساحة الكنيسة بالأمان:” قبل أكثر من 10 سنوات، كانت عملية إنشاء كنيسة أمرا صعبا ومرهقا للغاية، ومساحة كنيسة أبو سيفين 120 مترا، يعني متجيش شقة، أنا بطالب الأجهزة المسؤولة أنها تنتبه للنقطة دي، خاصة لو كانت الكثافة عالية والمكان ضيق، إما المكان يوسع بأي حال من الأحوال، أو يتم نقله لمكان أوسع »
حينما نسأل عن المسؤول، فنحن نبحث عن سد ثغرات الاهمال والجهل والخطر، عن سد ثغرات الفتنة واللغط، المخاوف مشروعة، الشكوك مشروعة، والافصاح عن الشكوك، هو الملاذ الوحيد الآمن للتنفيس عن الغضب والخوف، فالقلب الشكاك اشد فزعاً من القلب الجبان.
من المسؤول ليس سبة ولا طائفية، ولا هدم للسلام الاجتماعي بل اسهام في بناء عقل جمعي يخدم الجمهورية الجديدة، لوقف نزيف الأرواح.، فمن حق الناس ان تتساءل ومن واجب المسؤولين سواء في الحماية المدنية او الكنيسة او أي مكان توفير الإجابات، وهذا ما سعينا للإجابة عليه في الملف الخاص باحداث حرائق الكنائس الذي تجدونه بين اياديكم في عدد جريدة وطني صباح الأحد القادم .