عزيزي القاريء تحدثت معك في المقال السابق عن هذا اللحن الصغير جدا الذي يتكرر 41 مرة، وهو لحن كيرياليسون. دعني اليوم أستكمل معك تأملاتي في هذا اللحن العجيب رغم صغره وتكراره.
المناسبة التي يقال فيها اللحن:-
ينقسم القداس إلى ثلاثة أجزاء رئيسية:
الأول :هو تقدمة الحمل
الثاني:الاستعداد لتقديس السر (قداس الموعوظين)
الثالث :تقديس القرابين واستحالتها (قداس المؤمنين)
ففي الجزء الأول “تقدمة الحمل” بعد أن يلبس الكاهن بذلته الكهنوتية ويفرش المذبح، يتم تقديم الحمل … فيبدأ الشعب بلحن كيرياليسون وتدق أجراس الكنيسة تكريماً للحمل وإعلاناً أن الله يعلن رحمته ويدعو الكل إلى رحمة المسيح ونداء محبته.
ويقول ابن سباع أنه عند دق الأجراس، تنزعج الأرواح الشريرة وتهرب، وينتبه كل النائمين بالقرب من البيعة ويؤكد ابن سباع أن أول من ضرب الجرس في الوجود هو “نوح البار” وكان لاجتماع ما أمر به الرب من إنسان وحيوان وطائر لينجو من الغضب والطوفان.
والكنيسة هي سفينة النجاة التي فيها ننجو من طوفان بحر هذا العالم لذلك تدق أجراس ليدخل إليها المؤمنين فينجوا برحمة الرب قائلين لحن يا رب أرحم” “كيرياليسون”.
ولعل أفضل مناسبة تعلن عن رحمة الرب الواسعة هي لحظة تقديم الحمل … التي تشير إلى تهيئة المسيح حمل الله ليكون كفارة عن خطايا العالم لذا يقال لحن (يا رب أرحم) كيرياليسون.
وعند تقديم الحمل يفحصه الكاهن جيداً ويختار من القربان ما كان صحيحاً وسالماً ومن الخمر ما كان نقياً ويقدمان منفصلين عن بعضهما على مثال ما فعل السيد المسيح عندما تمم السر بفصل دمه عن جسده ثم يلف الحمل بلفافة إشارة إلى الأقمطة التي لفت بها العذراء ابنها البكر يسوع، ثم يضعه على المذبح في الصينية إشارة إلى عمل العذراء إذ أضجعته في مزود بعد تقميطه (لو 7:2).
أسلوب أدائه :
يتميز هذا اللحن باسلوب الـ Antiphonal Signing أي باسلوب المرابعة بين خورسين أو بين خورس الشمامسة ومرنم منفرد وعادة لا يصاحب أداؤه الناقوس أو المثلث.
الشرح والتأمل:-
بالرغم من أن لحن “كيرياليسون” يمكن اعتباره لحناً بسيطاً إلا أنه في ذات الوقت لحناً غريب في تكوينه الموسيقي. فهو يتكون من جملة موسيقية تنقسم إلى ثلاثة عبارات متساوية تماماً، كل عبارة فيها تحمل كلمتين (يا رب أرحم) أو (كيرياليسون) وكل عبارة تتكون من ثلاثة موازير وبذلك تصبح الجملة بأكملها تسعة موازير موسيقية.
وهذه الجملة البسيطة يتم ترديدها ثلاثة عشر مرة لتشمل 39 كيرياليسون التي ترمز إلى الـ 39 جلدة التي قبلها السيد المسيح.
ولعل سرعة اللحن النشطة، وتعاقب كلمة كيرياليسون وراءكيرياليسون تعطي الإحساس بتعاقب الجلدات تلو الجلدات، حتى تكتمل 39 جلدة بـ 39 كيرياليسون عندئذ تتوقف هذه السرعة النشطة.
حقاً لم يعد متبقياً في اللحن سوى كلمتين؛ “كيرليسون” ثم “كيرياليسون”.
أما الأولى فإنها القصبة التي ضربوا بها المخلص الصالح على رأسه المقدسة (مز19:15) لذا فهي تختلف في لحنها عن أي من الجلدات الـ 39.
أنها تنتهي بامتداد موسيقي (كرونا) على نغمة “فا” للتمهيد إلى الكيرياليسون الأخيرة التي هي الحربة التي أمسك بها واحداً من العسكر وطعن بها جنب المخلص الصالح فللوقت خرج دمُ وماء (يو 34:19).
تعالوا بنا نسمع اللحن… في الاسترحامة الأخيرة، إنه يرسم هذه الحربة وهذا الجنب المطعون في لحن بطئ متمهل يعبر عن الدم الذكي الكريم ممتزجاً بالماء وهو يسيل من الجنب المقدس ليفيض ويغمر العالم بأكمله فُيطهر من كل إثم ويرحم كل الشعب الصارخ “يا رب أرحم” فيغسلهم من كل خطيئة.
ليتني إلهي أردد وأكرر دائماً “يا رب أرحم” فألهج فيها نهاراً وليلاً، وأصبح كعبدك داوود الذي بلجاجته وصراخه الدائم “يا رب ارحمني” خرج من فمه نهراً من الألحان والمزامير وصارت ترددها الكنيسة في صلواتها.
ربي .. إني أتوق الآن لأن يأتي يوم الرحمة يوم الجمعة الكبيرة العظيمة والساعة الثانية عشر حينما أصرخ مع كل الشعب قائلاً كيرياليسون ليس 41 مرة فقط بل أربعمائة، مائة في كل جهة من الجهات الأربع لأؤكد أن يسوعي مات عن جميع الناس في كل أقطار الأرض الأربعة كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً.
عزيزي القاريء كم أتمنى أن أكون نجحت في شرح هذا اللحن البسيط كيرياليسون الحمل، وإلى أن نلتقي الأسبوع القادم ولحن عريق ممتلئ بالنغمات التطريبية هو لحن أللي القربان، فإلى أن نلتقي أتركك تنعم بمراحم ربنا الواسعة لتشكره كل حين على عظيم الصنيع معنا،
ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد آمين.