في هذا المقال نتعرف سويا على جزئية هامة من جزئيات التسبحة في الكنيسة القبطية وهي “الثيئوتوكيات”.
تاريخ ترتيب التسبحة:
بدأت التسبحة في طقس الكنيسة القبطية أولاً بأن تقتصر على الهوسات، ثم أضيفت إليها الإبصاليات، ثم أخيراً الثيئوتوكيات لتصبح جزء من التسبحة بعد مجمع أفسس المسكوني (431م)،واستمرتأليفها حتى القرن التاسع الميلادي.
واستقر أخيرا ترتيب التسبحة السنوية حاليا ليكون كالآتي: بعد صلاة نصف الليل يبدأ لحن “تين ثينو”، والهوسات الثلاثة “بألباشها” وألحانها (لبش تعني تفسير)، ثم يُقال مجمع القديسين بالتسبحة، ثم “الذكصولوجيات” (تمجيد القديسين)،ويقال بعد ذلك الهوس الرابع، ثم إبصالية اليوم (الإبصالية معناها ترتيلة)، وبعدها تأتي الثيئوتوكيات التي تخص اليوم وبعدها اللبش (التفسير)، ثم الدفنار(يشمل سرد لتاريخ قديسي اليوم مثل السنكسار)، وأخيراً قانون الايمان وطلبة ختام التسبحة.
الثيئوتوكيات تحمل إيمان الكنيسة القبطيةالأورثوذكسية:
ولقد وُضِعَت الثيئوتوكيات لمديح السيدة العذراء مريم وهي بمثابة إحتفال بالثيئوتوكوس التي بسببها حدث الخلاص، وأخذنا كل النعم الإلهية عن طريقها عندما ولدت ابن الله الكلمة المتجسد مخلص العالم، كما تقول ثيئوتوكية الأربعاء القطعة الخامسة:”عيد بتولي يدعو لساننا اليوم لكي نمدح والدة الإله مريم”.
وبصورة عامة فإن موضوع الثيئوتوكيات يشمل إيمان الكنيسة منذ بدء تأسيس الكنيسة مضافا إليه ماأقرته المجامع المسكونية القانونية الثلاثة، من حيث شخص السيد المسيح ووحدة طبيعته ووحدانية أقنومه، وأعجوبة ميلاده، وعلاقة كل هذا بالقديسة العذراء مريم، وكشف الرموز التي وردت في العهد القديم والتشبيهات التي شُبِهَت بها العذراء، في أسلوب سهل جذاب في بساطة من النغمات جعلت كل المؤمنين يحفظونها على مدى العصور.
ولهذا السبب وُضِعَت الثيئوتوكيات في تسابيح الكنيسة حتى تثبت المفهوم الأورثوذكسي لعقيدة الثيئوتوكوس والدة الإله في أذهان المؤمنين و علاقة القديسة العذراء مريم بابنها الحبيب الكلمة المتجسد، وللتأكيد على أن المسيح كان ميلاده ميلاداًحقيقياً من العذراء مريم ولم يكن خيالاً، بل إتخذ جسداً حقيقياًمن أم حقيقية، وأن المولود من العذراء هو ابن الله الأزلي، وكل هذا كان رداً على بدعة نسطور(الذي رفض لقب والدة الإله) فيما يخص الإيمان بسر التجسد والفداء.
الثيئوتوكيات من الناحية التاريخية:
أن كلمة ثيئوتوكوس (والدة الإله) هو لقب للعذراء قديم في تاريخ الكنيسة، استُعمِل منذ القرن الثالث الميلادي، ويُقال أن الذي استخدمه العلامة أوريجانوس، إلا أن هذا اللقب لم يَشَع استخدامه إلا بعد مجمع أفسس بواسطة القديس كيرلس الأول البابا الرابع والعشرون من باباوات الكنيسة القبطية حيث أصبح لقباً مقبولاً في جميع الكنائس تقريباً.
وسوف نتعرض لبعض المصادر التي توضح بعض المعلومات عن تاريخ الثيئوتوكيات ومن أين أتت نصوصها من كتابات المؤرخين والعلماء، فيذكر العلامة شمس الرياسة أبو البركات بن كبر المعروف بالأب برسوم كاهن كنيسة المعلقة (المتنيح في سنة 1324م) في موسوعته مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة: “وبعد هذا تُقال الثيئوتوكيات وهي معروفة عند الأقباط المصريين الذين تداولوها من واحدة إلى أخرى في كنائس مصر والقاهرة والوجه البحري، أما أهل الصعيد فإنهم لا يقولونها وغير معروفة عندهم إلا نادراً، وهذه الثيئوتوكيات هي تسابيح للسيدة العذراء،ويتضمن تفسيرها في العهد القديم والنبوات الخاصة بالعهد الجديد والميلاد البتولي، وتُنسَب إلى البطريرك أثناسيوس بركاته علينا آمين، ولكن هذه النسبة غير مُدَعَمة، ويقال أن قديس ذا فضائل وكان فاخورياً وأصبح راهباً في برية الإسقيط هو الذي ألف هذه الألحان”.
وبعض العلماء مثل الأب “جيامبرارديني” يستنتج أن تاريخ كتابة نصوص الثيئوتوكيات مابين السابع والعاشر الميلادي.
وحسب رأي بعض العلماء أن الجزء الخاص بالشيرات (من كلمة شيرى أي السلام) وهي لبش ثيئوتوكية السبت، هو جزء من العظة الافتتاحية لمجمع أفسس، والتي ألقاها القديس كيرلس الكبير.
وقد درس بعض علماء الغرب الثيئوتوكيات ومعرفة التشابه بينها وبين عظات وكتابات بعض آباء الكنيسة وقد وجدوا تشابه مابين عظة للبابا أثناسيوس الرسولي (295-373م) وبعض نصوص ثيئوتوكية الأحد، كذلك وجود تشابه مابين عظات القديس كيرلس الكبير (376-444م) في مجمع أفسس ونصوص ثيئوتوكيات الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والسبت، كما يُوجَد تشابه مابين كلمات القديس ساويروس الإنطاكي (المتنيح سنة 538م) والقديس ثيئودوسيوس أسقف أنقرة (في مجمع أفسس 431م) مع نصوص ثيئوتوكية الخميس، وتشابه كذلك مابين أقوال الأب بروكلس بطريرك القسطنطينية (438-446م) مع ثيئوتوكية الأربعاء، كما تُنسَب إلى آباء القرن الخامس ومابعدهم باقي التعبيرات اللاهوتية الواردة بالثيئوتوكيات وبقية الإبصلمودية القبطية.
ويذكر الأب يعقوب مويزر أحد علماء الغرب، أن الجزء الخاص بالشيرات (لبش ثيئوتوكية السبت) هو جزء من العظة الافتتاحية لمجمع أفسس والتي ألقاها القديس كيرلس الكبير.
ويقول الاستاذ الدكتور يوحنا نسيم يوسف أستاذ القبطيات بإستراليا والسويد في كتابه (في وسط الكنيسة أسبحك) “أن أرباع الثيئوتوكيات موزونة على اللغة القبطية دون سائر اللغات الأخرى، وهو مايُبَيِن أنها من إنتاج مصري قبطي، ويبدو أن الثيئوتوكيات كُتِبَت قبل القرن التاسع الميلادي ……، وهكذا يتضح لنا أن الثيئوتوكيات هي عُصارة الفكر اللاهوتي للقرون الرابع والخامس والسادس الميلادي”.
ومن كل هذه المصادر نستنتج الآتي:
أولاً: إن كلمة “ثيئوتوكية” مأخوذة من كلمة “ثيئوتوكوس” التي كانت مستخدمة منذ القرن الثالث الميلادي عند العلامة أوريجانوس (185-254)، والبابا ألكسندروس (312- 328م)والبابا أثناسيوس الرسولي والقديس ديديموس الضرير(تنيح سنة 398م)، القديس باسيليوس الكبير(330-379م)، والقديس غريغوريوس النيزينزي (329-390م)، القديس غريغوريوس أسقف نيصص (325-394)، والمؤرخ يوسابيوس القيصري(260-340م)، وغيرهم، ولكنها لم تشتهر إلا بعد مجمع أفسس المسكوني (431).
ثانياً نصوص الثيئوتوكيات مأخوذة من أقوال وعظات وكتابات لآباء الكنيسة العلماء، أمثال البابا أثناسيوس والبابا كيرلس عمود الدين والقديس البطريرك ساويروس الأنطاكي وغيرهم.
ثالثاً: أصبحت أقوال هؤلاء الآباء القديسين متداولة مابين المؤمنين في القرون الخامس والسادس والسابع الميلادي.
رابعاً: تم صياغتها بحيث تكون قطع موزونة بمقاطع لغوية،كُتِبَت مابين القرن السابع و القرن العاشر الميلادي، وربما تكون قد كُتِبَت في أديرة وادي النطرون.
خامساً: إنتشرت الثيئوتوكيات في الوجه البحري والقاهرة أولاً، ثم وصلت إلى الصعيد في وقت متأخر، حسب إستنتاج العلامة بن كبر في القرن الرابع عشر الميلادي.
والثيئوتوكيات من حيث تركيبها اللغوي والموسيقي حسب الطقس الكنسي تنقسم إلى آدام وواطس، اللحن الآدام يتميز بالقِصَر والمَيل إلى نغمة الفرح، حيث تُقال في أيام الآحاد والإثنين والثلاثاء، حيث تذكار قيامة رب المجد من الأموات، ونجد أنها تتكون من جملتين موسيقيتين، كل منهما عبارتين سؤال وجواب،وكل عبارة تتكون من ثلاث موازير موسيقية بثلاثة مقاطع لغوية،فمثلا في ثيئوتوكية الأحد “شاشف إن – إسوب إم – ميني”،”إيفول خين – باهيت – تيرف”، “تينا إسمو – إبيك – ران”،”بشويس إم – بي إب – تيرف”، وهي على مقام الراست وهو مقام رئيسي في الموسيقى العربية ويكون إيقاعه سريع مطرب.
أما الثيئوتوكيات الواطس تتميز بالطول والخشوع والجدية وتقال يوم الأربعاء والخميس والجمعة والسبت، وهي الأيام التي نتذكر فيها خيانة يهوذا والقبض على رب المجد وصلبه وقبره، وهذه الثيئوتوكيات الواطس أطول في مقاطعها فتتكون من جملتين أيضا، كل منهما عبارتين سؤال وجواب، ولكن كل عبارة تتكون من أربع أو خمس موازير بأربعة أو خمسة مقاطع لغوية، وآخرعبارة تتكون من ثماني موازير بثمانية مقاطع لغوية، فمثلا في ثيئوتوكية السبت: “شيرى – ثي إث – ميه إن إه – موت”، “شيرى ثي -إتاس – جيم إه – موت”، “شيرى ثي – إتاس – ميس – بي خريس – توس”، “أووه إب – شويس – شوب – ني – ى – ي – ي – مى”، وتكون على مقام الكرد الذي يتميز بالعاطفة والمشاعرويكون إيقاعه متمهل.
وكل ثيئوتوكية من أيام الأسبوع تختص بإبراز جانب معين من سر الفداء العظيم وميلاد المسيح وتتميم النبوات والرموز.
إن الثيئوتوكيات هي المنبع الذي يحمل إيمان الكنيسة في كلماتها، يسبح بها المؤمنون أطفالاً
…