يقال فى نهاية الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة،
ونصه موجود بكتاب خدمة الشماس والألحان وترتيب أسبوع الآلام).
عزيزي القارئ أريد اليوم أن أغوص معك في أعماق لحن عريق قديم يضرب في جذوره في أعماق التاريخ ليربطنا بأجدادنا الفراعنة وبالسماء، وبمنطقة صلب السيد المسيح. اللحن هو لحن غولغوثا، الذي يُرنم يقال فى نهاية الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة.
وكلمات هذا اللحن هى مزيج من اللغة القبطية واللغة اليونانية، وإن كان معظمها باللغة القبطية، فيما عدا الجمل التى تبدأ بـ ” ذوكسابترى … ، كى نين … … ، آجيوس … … ” فهى باللغة اليونانية .
ويقال هذا اللحن فى ذكرى دفن السيد المسيح، فى نهاية طقس صلاة الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة ، ويسمى بـ ” قانون الدفنة “. وأثناء التسبيح به، يلتف الشمامسة حول المذبح، ويأخذ كبير الكهنة أيقونة الدفن أو أيقونة الصلب ويلفها بستر كتان أبيض ويضع عليها الصليب ويدفنها فى الورد والحنوط، ويضع خمس حبات قرنفل أو بخور، إشارة إلى المسامير وإكليل الشوك والحربة، ثم يغطيها بالإبروسفيرين ويجعل منارتين عليهما شمعتان مثال الملاكين الذين كانا فى القبر المقدس، واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين.
والجلجلة بالعبرانية أو ” الإقرانيون ” باليونانية، هى الموضع الذى صلبوا فيه رب المجد وهو باسط يديه، ولصين عن يمينه وعن يساره قد صلبا معه. وهو مكان بالقرب من أورشليم لكنه خارج أسوارها إذ يقول القديس بولس :
” لذلك يسوع أيضاً لكى يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب.
فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة حاملين عاره ” ( عب13 : 12 ) .
ويبدو أنها كانت بقعة منظورة، إذ يقول الكتاب :
” وكانت أيضاً نساءً ينظرن من بعيد، بينهن مريم المجدلية ” ( مر15 : 40 ) .
والكلمة مأخوذة عن اليونانية ” كرانيون “، ويظن البعض أن هذا الاسم أطلق على هذا الموضع بسبب الجماجم الكثيرة المكشوفة الغير مدفونة. وآخرون قالوا إن المكان كان ساحة للإعدام، لكن التفسير العادى والشائع هو أن المكان كان تلاً على شكل جمجمة
وفى المساء بعدما أسلم يسوع الروح. جاء يوسف الذى من الرامة ” مدينة اليهود ” وهو رجل غنى وهو تلميذ ليسوع، وكان مشيراً غنياً ورجلاً صالحاً باراً وعضو فى مجلس السنهدريم، ويقال أنه رفض حضور جلسة محاكمة السيد المسيح، وأنه إمتنع عن التصويت، هذا لأنه لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم .
ولقد كانت الشريعة اليهودية تقضى بألا تبيت جثة المحكوم عليه بالإعدام على آلة التعذيب، وكان القانون الرومانى يجيز لذوى المحكوم عليه بالموت، أن يصلب جسده ويأخذه، فتجاسر “يوسف الرامى” وطلب جسد المسيح من بيلاطس ليتمكن من دفنه قبل دخول السبت، إذ كان يملك بالقرب من الجلجثة بستاناً نحت فيه قبراً، فأُعطى له جسد يسوع ليدفنه، وقد شاركه “نيقوديموس” فى هذا الشرف.
“ونيقوديموس” هذا أيضاً كان عضواً فى مجمع السنهدريم، وهو فريسى وواحد من رؤساء اليهود، وهو الذى ذات يوم جاء إلى المسيح ليلاً لكى لا يراه أحد، ليشاوره ويباحثه فى أمر الولادة الثانية الروحية، وقد اقتنع بكلام يسوع، لذا دافع عنه فى السنهدريم عندما هاجمه الفريسيون قائلاً لهم:
“ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يُسمع منه أولاً ويعرف ماذا فعل” ( يو7 : 50 )
فأخذ “يوسف ونيقوديموس” جسد يسوع، ولفاه فى لفائف من الكتان النقى مع الحنوط، ووضعاه فى قبر جديد منحوت فى صخرة، وبينما هما يكفنانه ويضعان عليه طيباً، صارا يسبحانه وعيونهما تفيض دموعاً، وكان تسبيحهما هذا هو أساس قانون الدفنة الذى تردده الكنيسة حتى الآن.
ولحن “غولغوثا” يؤديه جميع الشمامسة وهم ملتفون حول المذبح، فى الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة الكبيرة، بدون استخدام الناقوس أو المثلث.
إن هذا اللحن يضرب بجذوره لآلاف السنين، وعندما ندقق السمع إليه نجده غاية فى بساطة التركيب الموسيقى، حتى أنه يوحى للسامع، بأن الجملة الأولى منه والتي تتكرر كثيرا، تبدو وكأنها لحن من ألحان “التعديد” السائدة فى ذلك الوقت.
ويؤكد الفيلسوف ” فيلو ” الإسكندرى من القرن الأول الميلادى “أن جماعة المسيحيين الأولين قد أخذوا ألحاناً من مصر القديمة ووضعوا لها النصوص المسيحية ومن بين هذه الألحان، لحن “غولغوثا” الذى كان يرتله الفراعنة أثناء عملية التحنيط وفى مناسبة الجنازات”.
وربما هذا يجعلنى أعتقد أن جزءاً من هذا اللحن، هو ذات اللحن الذى سبح به يوسف ونيقوديموس، أثناء دفن السيد المسيح ، فالمنطق يؤكد أن لحظات دفن يسوع، لم تكن ليوسف ونيقوديموس، لحظات تأليف موسيقى، وتعبير نغمى لحالة روحية يعيشانها، بقدر ما كانت لحظات تأثر بالغ، مزيج من الحزن الشديد، واندهاش وتعجب ” كيف يموت ذاك الذى يهب الحياة ؟” لذا فهما ربما قد سبحا بالنغمات التى يختزناها فى العقل الباطن من الخلايا الموسيقية “Themes”، والتى يسترجعها العقل الواعى من مواقف مماثلة، وربما جاء بعد ذلك الآباء الأولون فوضعوا التصور النهائى لهذا اللحن من كلمات وجمل موسيقية، لذا فإن لى رأى شخصى أود أن أقوله بهذا الصدد، وللقارئ أن يقبله أو أن يرفضه، وهو أن لحن غولغوثا هذا، ينقسم إلى جملتين موسيقيتين أساسيتين:
+ الجملة الأساسية الأولى: وهى التى ينطبق عليها قول “فيلو” الفيلسوف من أنها من الخلايا الموسيقية الفرعونية، التى أخذها جماعة المسيحيين الأولين من مصر القديمة، ووضعوا لها النصوص المسيحية. إذ تبدو وكأنها لحن من ألحان التعديد السائدة فى ذلك الوقت، لما فيها من بساطة التركيب وعدم الازدحام بالنغمات “أربعة نغمات فقط”، ولأن هذه النغمات موضوعة فى منطقة غنائية سُلمية ()، بسيطة يستطيع أى إنسان أو يؤديها بلا عناء حتى وهو مجهش بالبكاء، فهى ليست فى منطقة القرارات الخفيضة () التى يتطلب أداؤها دقة وحذر، كما أنها ليست فى منطقة الجوابات الحادة التى يتطلب أداؤها مجهوداً.
+ أما الجملة الأساسية الثانية : فهى لا ينطبق عليها قول “فيلو” الفيلسوف، وذلك للأسباب الآتية:
– أن الصياغة الموسيقية وأشكال الموتيفات مختلفة عن الجملة الأولى.
– أن أداها يتطلب عناية فائقة لما فيها من قفزات صوتية “خامسة تامة” “Perfect Fifth” وحركة سريعة لبعض النغمات.
– إن هذه الجملة الثانية يتطابق فيها المعنى اللفظى مع التعبير النغمى، أى أنه عندما تكون كلمات اللحن “أفؤش إيفول إنجى بى سونى” ومعناها “فصرخ اللص” ترتفع النغمات وتحدث قفزات صوتية () وتتحرك النغمات سريعة لتعبر عن هذا المعنى اللفظى، الأمر الذى لا يمكن أن يحدث إلا بالتأليف الموسيقى المعاش، وهو ما كان يصعب حدوثه وقت قيام يوسف ونيقوديموس بدفن جسد السيد المسيح.
وتوجد باللحن بعض الكلمات اليونانية والتى تشير إلى أن هذا اللحن قد انتقل من اللغة المصرية القديمة إلى اللغة اليونانية ثم إلى القبطية.
واللحن من مقام ” عجم ” المعروف بالسلم الكبير وهو أبسط سلم موسيقى فى المقامات الشرقية والغربية على السواء. أما الميزان الموسيقى البسيط التركيب فهو ثنائى (2/4) أى أنه لا يتعدى ضربتين إيقاعيتين في كل مازورة موسيقية، الأولى قوية والثانية ضعيفة.
وأما سرعة اللحن ، فهى تقدر بحوالى 80 نبضة فى الدقيقة، ويجب ألا تزيد عن ذلك، وإلا تحول اللحن إلى “مارش عسكرى”، وفقد لمسة الحزن التى تتلفح بها نغماته.
عزيزي القارئ، إن موسيقى هذا اللحن تتلخص فى جملتين صغيرتين: الجملة الأولى وهى أساسية، تتكون من ثمانى موازير فقط، لا ينطق فيها من السلم الموسيقى سوى أربعة نغمات فقط، وكأن يوسف ونيقوديموس من فرط أنهما مجهشان بالبكاء أثناء وضع الطيب على جسد الحبيب لم يستطيعا أن ينطقا بأكثر من هذه النغمات الأربع. فالأحبال الصوتية متهدجة لا تستطيع أن تعلو إلى نغمة خامسة، أنهما ينظران إلى هذا الوجه المقدس فى اندهاش وهما يتساءلان: كيف يموت ذاك الذى يهب الحياة! كيف يموت الذى تسبحه الملائكة بغير فتور على الدوام قائلين ” قدوس الحى الذى لا يموت “. وعندما يتذكران تسبحة الملائكة يجدان نفسيهما يسبحان بصوت مبحوح “Fioco” قد دغدغة البكاء .. فلا يتبقى لهما فى الحنجرة من أحبال تقدر على الاهتزاز سوى هذه النغمات الأربع، فيظلان يكرران هذه الجملة البسيطة -التي تبدو أنها مختزنة في عقلهما الموسيقي الباطن- عشرة مرات. وبينما هما يكفناه ويضعان الطيب يتذكران صراخ اللص اليمين قائلاً:
“إذكرنى يارب متى جئت فى ملكوتك”
وعندئذ يدركان أن صراخ اللص اليمين قد انتشله من الهاوية والهلاك الأبدى إلى النعيم والملكوت الأبدى، لذا يحاولان هما أيضاً أن يصرخا مثله رغم الصوت المبحوح فلا تأتى إلا نغمة خامسة لم تكن موجودة من قبل فى الجملة الأولى التى تكررت عشرة مرات. وتكون النغمة الخامسة هذه هى ثمرة جهادهما وتعبهما، ورغبتهما فى الوصول إلى العلو الذى صار إليه اللص اليمين.
لذا تتحول تسبحتهما إلى شكل آخر، بجملة ثانية، هى فى الحقيقة أكثر قوة من الجملة الأولى إلا أنها أكثر نعومة، أنها تبدأ بقفزة إنسيابية “Glissando” تتسلق النغمات الخمس فى سرعة خاطفة لتعبّر عن كلمات: “أفؤش إيفول إنجى بى سونى” أى “فصرخ اللص”. وهذه السرعة الخاطفة لمسافة “خامسة تامة” “Perfect Fifth”، هى سرعة ليست بغريبة، لأن الصورة المرسومة الآن فى عقل يوسف ونيقوديموس هى صورة هذا اللص الذى فى سرعة خاطفة، سرق ملكوت السموات وفردوس النعيم، فلماذا هما أيضاً لا يسرقانه بلحن يقفز، فيعلو بهما إلى ألحان الطغمات السمائية المنتشرة فى أرجاء الجلجثة.
إن صورة ذلك اللص تجعلهما يرددان هذه الجملة الثانية أربعة مرات، ثم ينحنيان فى خشوع أمام هذا الجسد المائت الممتلئ حياةً، ليطلبا منه فى توسل “ألسنا مستحقين أن نكون مثل ذلك اللص اليمين” … إننا نعرف خطايانا أنها كالقرمز، لكن جسدك المقدس هذا ودمك الكريم المنبثق من جنبك المطعون تجعلها تبيض كالثلج.
لذلك يعودان مرة أخرى إلى الجملة الأولى الرقيقة العذبة الحزينة ذات الأربعة نغمات ليقولا فى توسل:
“أرى با ميفئى أو باشويس” الذى تفسيره:
“أذكرنى يارب متى جئت فى ملكوتك”
ويظلان يكررانها أربعة مرات أخرى، حتى يأتى إليهم صوت الرب الوديع وهو يقول لذلك اللص:
“اليوم تكون معى فى الفردوس”
نعم لن يستطيعا أن ينسيا ذلك الصوت العجيب، صوت وديع لكنه يحطم الأرز ويقطع لهيب النار، صوت وديع لكنه يزلزل برية قادش ويجرد الغابات … أنه نفس الصوت الذى صرخ بصوت عظيم قائلاً “لعازر، هلم خارجاً” لقد أقامه بصرخةٍ، من بين الأموات، أنه يقدر أيضاً أن يقيم من موت الخطيئة.
نعم لقد تذكر يوسف الرامى خطيئته، كيف آن له وهو تلميذ ليسوع، أن يتستر خوفاً من اليهود، كان عليه أن يطرح الخوف خارجاً، وقد طرحه، عندما تجاسر ودخل إلى بيلاطس وسأله أن يأخذ جسد السيد المسيح، لم يعد للخوف مكان فى قلبه، لذا يمكن للأصوات أن تعلو مرة أخرى ويمكن للجملة الثانية ذات النغمات الخمس وذات الفقرة الانسيابية “Glissando” أن تعود مرة أخرى وأن تتكرر هكذا سبع مرات.
ويظل هكذا اللحن مزيجاً من الحزن الهادئ تارةً، ومن القوة الحزينة تارة أخرى، حتى ينتهى اللحن بالجملة الأولى، ذات النغمات الأربع عندما ينتهيا من دفن الجسد الميت الذى للمسيح الحى فيسجدان أمام القبر وهما يذرفان الدمع الهتون، قبل أن يتوارى عن أعينهما هذا الجسد المقدس بذاك الحجر العظيم.
تأمل:
يا من بالموت دست الموت بعدما تألمت،
أعطنى أن اعتبر عذابك كنزى وإكليل الشوك مجدى،
وأوجاعك تنعمى ، ومرارتك حلاوتى ، ومحبتك فخرى وشكرى..
اللهم لا تدع اللحم والدم يظفران بى، ولا للشيطان أن يصرعنى،
بل أعطنى أن أتذوق مع يوسف ونيقوديموس بهجة هذا اللحن الحزين “غولغوثا”.
رابط فيديو اللحن:
سلام ونعمة من ملك السلام
مرفق لحضرتك مقال للتأمل في لحن
غولغوثا
الذي يقال في أسبوع الآلام
في الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة
Best Regards,
George Kyrillos
Grand Egyptian Museum
Project
Please consider the environment before printing this e-mail. ******************************************************************************************************************************************************** This message and any attachments transmitted with it are confidential and are intended only for the use of the individual or entity to which they are addressed and may contain information that is confidential, subject to copyright or constitutes a trade secret. If you are not the intended recipient you are hereby notified that any dissemination, copying or distribution of this message, or files associated with this message, is strictly prohibited. If you have received this message in error, please notify us immediately by replying to the message and deleting it from your computer. Messages sent to and from us may be monitored. Internet communications cannot be guaranteed to be secure or error-free as information could be intercepted, corrupted, lost, destroyed, arrive late or incomplete, or contain viruses. OC accepts no liability for the content of this message, or for the consequences of any actions taken on the basis of the information provided, unless that information is subsequently confirmed in writing. Any views or opinions presented in this message are solely those of the author and do not necessarily represent those of OC. Computer viruses can be transmitted via email. The recipient should check this message and any attachments for the presence of viruses. The company accepts no liability for any damage caused by any virus transmitted by this message. ********************************************************************************************************************************************************
Preview YouTube video لحن غولغوثا – من برنامج ما وراء الألحان